عن الوجود والموت وأشياء أخرى كثيرة يحكي فيلم وودي آلن، الذي وصل أخيراً إلى الصالات اللبنانية. يحشو السينمائي النيويوركي شريطه ما قبل الأخير Whatever works «كيفما اتفق» (2009)، بأفكار متزاحمة تدور في فضائه المعتاد. ها هو يعود ليطرح علينا أسئلة الحب والدين والموت والوجود من خلال شخصية أستاذ عجوز متشائم، يعاني أزمات وجودية، تغيّر نمط حياته. «كوميديا سوداء أخرى» كما وصفها آلن، تدور حبكتها في مدينته الأثيرة نيويورك.
ها هو يعود إليها بعد ثلاثة أفلام في لندن، وواحد في برشلونة. لكنّ العودة النيويوركية لم تأت موفّقة هذه المرة، بل متعجّلة وضعيفة.
يمكن تلخيص حبكة الفيلم بلقطة واحدة. في الليل، يستيقظ بروفيسور الفيزياء السابق في «جامعة كولومبيا» بوريس يلنيكوف (لاري دايفد) من نومه مذعوراً، وهو يصرخ «سأموت، سأموت». تسأله زوجته بهلع إن كان يجب عليها أن تتصل بسيارة الإسعاف، فيجيبها: «لا، ليس الآن، لكن سأموت في نهاية الأمر». هذا الهلع من الموت، يتردد صداه في الفيلم، ويطغى على الشخصية الرئيسية. بوريس، الوقح والمتشائم والمتكبّر أيضاً، يقضي وقته في تعليم الأطفال لعبة الشطرنج ثمّ الاستهزاء بغبائهم.
في مشاهد الفيلم الأولى، نراه يجادل أصدقاءه بعجرفة عن الدين والأيديولوجيا وغريزة الإنسان... يكسر بعدها «الحائط الرابع» بطريقة غير مقنعة، فيتوجّه مباشرة إلى المشاهد، في مرافعة عن عبثيّة الحياة. من هنا ينطلق الفيلم في أحداثه، إذ ينتقل بوريس للعيش في شقة أخرى بعد الانفصال عن زوجته. يتعرّف لاحقاً إلى ميلودي (إيفان رايتشيل وود) الشابة الهاربة من ميسيسيبي إلى نيويورك. كانت تقف عند مدخل شقته تتضوّر جوعاً، فيحاول طردها، ثمّ يشفق عليها، لكنّ العلاقة تتطوّر، رغم اقتناعه بغبائها الشديد.
يمكن القول ببساطة إنّ الفيلم ممتع. كوميديا سوداء، مليئة بمشاهد ساخرة مضحكة، وأسئلة وجودية مكرورة. لكنه لا يرقى إلى مستوى أفلام وودي آلن الأخرى. كان صاحب «كازينو رويال» قد كتب السيناريو في سبعينيات القرن الماضي، على أمل أن يؤدي دور بوريس، الممثّل الكوميدي الأميركي زيرو موستيل. بعد وفاة الأخير عام 1977، وضع السيناريو جانباً، ثمّ عاد إليه آلن مرة جديدة، ويسند دور البطولة إلى الكاتب والممثل الأميركي لاري دايفد. وربما هنا تكمن الغرابة، إذ يفترض أن يأتي سيناريو كهذا، كتبه آلن في «فترته الكلاسيكية»، ما بين «الحب والموت» (1975) و«مانهاتن» (1979)، على درجة معيّنة من الجودة. لكن يبدو الشريط معلّقاً ما بين تلك الفترة الذهبيّة، وموجته الحديثة، وذلك من ناحية السيناريو وتطبيقه سينمائياً. يبدو الفيلم مندفعاً في اتجاهات عدة تحاول الالتقاء، لكنّها تفشل.
اختيار لاري دايفد لدور البطولة هو أحد جوانب الضعف في الشريط. هو ببساطة لا يجيد التمثيل، ويبدو أداؤه لشخصية بوريس مماثلة تماماً لأدائه في المسلسل التلفزيوني Curb Your Enthusiasm، المتأثر بسلسلة Seinfeld الشهيرة (كان دايفد أحد مبتكريها). جاء الأداء غير مقنع، ومبالغاً فيه أحياناً، ويصل حدّ السخافة. فكرة كسر الحائط الرابع مع الجمهور، ليست جديدة في أفلام وودي آلن، إلّا أنّها بدت هنا مبتذلة. فيما أتى أداء كل من إيفان رايتشيل وود، وباتريسيا كلاركسون بمثابة إنقاذ لفشل دايفد، وللعمل بدرجة كبيرة.
قد يبدو الفيلم متعجّلاً، والسبب استماتة آلن لاستعادة معادلته الأثيرة: نيويورك والحب والأسئلة. ومن هنا، ترشح بعض ملامح التكرار والارتجال غير المتقن. رغم ذلك، يبقى العمل مطبوعاً ببصمة وودي آلن المميّزة، ووصفته السينمائيّة الفريدة... وإن جاءت مخيّبة للآمال قليلاً.


«غراند ABC» (209109/01)، «كونكورد» (01/343143)، «أبراج» (01/292192).