إدوار الخرّاط: نبي الزمن «الآخر»

المشرّع على الآتي

  • 0
  • ض
  • ض

ادوار الخراط نبي «الزمن الآخر»... وتنوّع الهوية المصرية | من كل الصور الراسخة عن إدوار الخرّاط ـــ القاص، والروائي، والشاعر، والناقد، والمترجم ـــ يحلو لنا أن نتمسّك بواحدة: رسول الكتابة الجديدة. في ظلّ هيمنة جيل الروّاد الذي استحال سلطة يُحظّر تجاوزها، ولا وجود ممكناً خارج منابرها ودائرة شرعيّتها وقواعدها الابداعيّة، كان «العم إدوار» يستقطب الشباب ويرعاهم ويحرّضهم، ويشرعن اختلافهم، ويواكب تجاربهم، يطلقها ويحميها، ويوفّر لها الأطر النظريّة والنقديّة، والمراجع الجماليّة المختلفة. والأهم، يلهمها بإبداعاته: فمنذ خمسينيات القرن الماضي، شكّلت الكتابة لديه فعل تمرّد وحريّة، اختراع وتجاوز، واكتشاف أقاليم غير متوقّعة، غير موجودة على خريطة السائد. كتابة مارقة في نظر المرجع الرسمي. بعيداً عن الواقعيّة الاشتراكيّة، وواقعيّة نجيب محفوظ التي تصعب زعزعتها من الوجدان الجماعي، اشتغل صاحب الثلاثية (رامة والتنين - الزمن الآخر - يقين العطش) على واقعيّة المشاعر والرؤى والحالات النفسيّة التي تقود إيقاع السرد، وتحدِّد تماوج المفردات، وبنية الجمل. غرف من ذاكرته ومكانه الأوّل وبيئته ومعيوشه، مادة لنص آخر، تختلط فيه غالباً الأنواع، فتضيع الحدود بين الأشكال المتعارف عليها، عبر علاقة مختلفة بالزمن، عبر صياغة مغايرة للموجودات والأماكن والشخصيات والمشاعر والانفعالات والأفكار. كانت الكتابة لديه باختصار، سعياً إلى المطلق، بما هو عدالة وتناغم وحريّة وكمال. جاء نصّه تأليفاً جدلياً بين عناصر متناقضة. ومن هنا بدا، أحياناً، كثيفاً ودسماً وذهنياً ومحمّلاً بالطبقات والمستويات والمرجعيات الفلسفيّة، والروافد الحضاريّة، والأنواع والمقاصد والطموحات الكبرى. من هنا أيضاً شغله المنهجي، حدّ الهوس، على التفاصيل. لكنّ «تهمة» الشكلانيّة ساقطة حكماً: إدوار الخراط كاتب الجوهر، وفنّان اللغة. الأديب الاسكندراني، إبن العائلة القبطيّة، كان مصريّاً في مسامه الابداعيّة، وعربيّاً بالمعنى الحضاري الأشمل للكلمة. إنّه ابن اللغة العربيّة التي اشتغل عليها ونحتَها، ووضعها على المحك، واعاد اجتراحها في قوالب جماليّة، وديناميّات سرديّة جديدة. على هذا الأساس دخل تاريخنا الثقافي في حياته، كأحد أبرز مؤسسي الحداثة العربيّة. كل الدروب المتعرّجة قادته إلى الكتابة: عمل مخزنجياً، وموظف بنك وشركة تأمين، وانخرط في «منظمة تضامن الشعوب الافريقية - الآسيويّة»، وحرر مجلّة «الاتحاد العام لكتّاب آسيا وافريقيا»، كان ذلك في الزمن السعيد… الشاب التروتسكي ناضل في صفوف «الحركة الوطنيّة». وفي معتقلات الملك فاروق «علّم نفسه» الفرنسيّة التي أخذته إلى السرياليّة والوجوديّة والرواية الجديدة، بعدما إلتهم شيلي وبايرون وكيتس بالانكليزيّة، بالتوازي مع كنوز التراث العربي. ثم جاء وقت اكتشاف فرويد وماركس. وتعلّم من سلامة موسى، من بين اشياء كثيرة، قيم العقلانية والشك المنهجي التي غيرت نسيج حياته الفكرية والروحية. مؤسس «جاليري 68» (مع آخرين)، كان مطلاً على نتاج الأدب العالمي والفكر العالمي، هو الذي ترجم تولستوي وسيمون دو بوفوار و… جان آنوي. وقد حمل هذه التأثيرات إلى الأجيال المتعاقبة، مراهناً على «الحساسيّة الجديدة» التي صارت عنواناً لمشروعه. كان إدوار الخراط الشاهد الملك على منعطف الستينيات في الأدب المصري. لكن من الصعب اختصاره في مرحلة. إنّه «الكاتب المشرّع على الآتي»، بتعبير سعيد الكفراوي: «أمضى عمره يسعى وراء كتابة تعيش زمنها، ثم تعبره إلى زمن آخر، حالمةً بتجاوز العصر والمكان».

0 تعليق

التعليقات