جمع عمر راجح العالم في بيته. تحديداً، في الزاوية السرية غير المرئية منه والأليفة: المطبخ. راقصون من آسيا (هيرواكي أوميدا)، أفريقيا (أناني دودجي سانوفي)، أوروبا (كوين أوغستنجين) إضافة إلى راجح ووالدته و«تريو جبران» (فلسطين). احتشدوا حول طاولة طعام شكّلت الجزء الأرضي من السينوغرافيا. سينوغرافيا سيبرهن راجح مرة جديدة، بأنه سليل كوريغراف عالميين (ساشا فالس، رايموند هوغ، وغيرهما) ممن لديهم قدرة على جعلها مادة ذات كينونة «حركية»، قابلة للطي والتمدد، تستطيع بتغير موضعها أن تفرض مساحات جديدة على الراقصين وتقسم الركح إلى فضاءين متنافسين/ سلطتين، كما لو أنها سكين عملاقة. الرقص هو الجزء المُعَدَّل من حياة عمر راجح اليومية. الشطر المتخيل من سيرته الذاتية الذي يُروى في أبجدية من الحركة الرمزية، كما عند ترومان كابوتي، مارغريت دوراس، وودي آلن وكاترين مييه في الأدب. لا ينفي هذا الواقع كنقطة ارتكاز ظلّية. هذه المرة، كان على الكوريغراف اللبناني في «بيتنا» الذي افتتح «مهرجان بيروت الدولي للرقص المعاصر ـ بايبود» قبل أيام، أن يستعير العالم وأزماته وأن يكثف التنوع العرقي حركياً، ويفعّل مكوناته، ويقربها، في نوع من تجريد الجسد من كل الأثقال الشكلية والفروقات، وجعله جسداً لا مرجع لديه سوى اللعبة الحركية نفسها.
أعادنا إلى الاستقلال، والحرب الأهلية عبر شاشة في الخلفية

بهذا التكثيف والاختزال، جاءت الأجساد متطابقة لا من حيث الشكل، وإنما من حيث علاقتها بالرقص، إرثها الثقافي القديم، الذي شكّل عبر العصور سبيلها للاتصال بمحيطها، والتحلل من الفروض الاجتماعية والسياسية، والبحث عن فلسفتها. بهذا المعنى، فإن «بيتنا» لم يكن مجرد عرض احتفائي بـ «تنوع» إكزوتيزمي ما، كما قد يراه الغرب، وإنما مُرَكّب كوريغرافي برز فيه هذا التجريد الهائل للعلاقة الاجتماعية للأجساد بمحيطها وتخليصها بشكل فج مما يفرض عليها من أزمات سياسية واجتماعية وتربوية، وتزيينية. أعيدت الأجساد إلى لغتها الاولى ـ الاختبار الأول، اللغة التي ترتكز فيها الكينونة البشرية عند الخروج من رحم الأم، أي الحركة.
الطاولة، الأداة المطبخية الثابتة في كل منزل، بدت أشبه بمغناطيس عملاق. ضغطتْ الفضاء المسرحي، ليصبح الهواء المحيط مجرد فراغ ركيك، بيئةٍ مُعَطَّلة في انتظار الراقصين. كما لو أن التحولات التي ستصيبها (خلال أعداد الطعام)، ستمس في نفس الوقت الراقصين أنفسهم وجوهر علاقتهم بفردانيتهم وثنائياتهم. إنها البيئة المسرحية التي سينضوي الراقصون بداية حولها في حركة «مدنية» ضرورية صامتة (تحضير الطعام)، قبل أن ينكسروا تباعاً بعيداً عنها. لاحقاً، سيجعل راجح الطاولة تقسم المسرح بشكل مائل، إلى مساحتين متنافرتين، غير متساويتين، مما سيوحي بأن ثمة اختلالاً ما، توازناً هندسياً غير ناجز، أو تخريباً مفتعلاً ليشكل عاملاً شاحناً للمناخات النفسية للراقصين، والعودة إلى ألوانهم الكوريغرافية، وثقافاتهم المتعددة وأسلوبهم الحركي، الذي طورته تراكمات سياسية وحروب وغزوات والحاجة إلى أسلوب خاص، يتخذ طابعاً قدسياً، في التواصل مع الوجود.
لن يعود المطبخ تلك الناحية «الخجولة» من المنزل. فهو ممنوح الآن تلك الكينونة المسرحية الصامتة. سيبدو كل شيء هادئاً، «عادياً»، كما لو أنه يمضي بسلاسة، بلا أخطار أو مفاجآت. سيجعلنا نتساءل «ماذا لو جرح أحد الراقصين يده بسكين ونزف أمامنا؟ ما الذي سيحدث؟ هل سيتوقف كل ذلك؟». هكذا، ينفتح النص الكوريغرافي منذ البداية على ماهية الحركة «المدنية» تلك، وإمكانات توظيفها كوريغرافياً. هل يمكن أن يتخذ كل سلوك عادي بعداً عنفياً، رغم رتابته أو بساطته؟ بهذا، يدخل المشاهد بداية العرض، في نوع من الأسئلة الجمالية والوجودية: تعامد الراقصين والطاولة، التجانس مقابل التنوع العرقي، الألفة مقابل الصلابة الجسمانية/ الارتداد إلى فردانية ما، ثم رمزية حضور للأم كأنثى في شخصيتها الحقيقية، في «مهمة» هي نتاج سلطة بطريركية قديمة، وحيدة بين راقصين ذكور يمارسون دوراً منزلياً ما.
ركّب راجح «بيتنا» في ثلاث مشهديات («فتوش»، «خلّاط»، «مخلوطة»). كان لا بد من أن يحيلنا ذلك على «الخلطة»، العبارة «الكيتش» المتداولة لبنانياً للنيل من الواقع. أعادها راجح إلى مؤثرين سياسيين أساسيين (الاستقلال، الحرب الأهلية)، عبر شاشة في الخلفية كوّنت مستوى أعلى من السينوغرافيا. عرضت الشاشة عداداً للوقت. الزمن مقياس الحركة على الركح. دقّتها ومنجزها. عدّاد الوقت يقف عند لحظتين «ماضيتين» حاسمتين (1943 ـ 1975) مكثفاً البعد المعنوي والشخصي للعرض. الجسد هو البيئة الديمقراطية الوحيدة للذات. والراقصون يتحركون كما لو أنهم في منطقة محرّمة. منطقة قدموا إليها من عالم مضطرب. كل منهم سيحاول اقتراح الجذر الثقافي والحركي الشعبي لجسده عبر اختباره للمستويات الأرضية تحديداً، وجعل الجسد منفلشاً أو وسيطاً تعبيرياً لفرحٍ ما أو لنوع غير مكتمل من الهذيان أو الترانس. حوارات حركية بُنيت في صيغ مباشرة، مضخّمة ذاتية الراقصين، تقطعت بالكلام تارة، أو الضحك وتبادل الآراء على وقع الموسيقى الحية لـ «تريو جبران» طوراً. هذا الاحتكاك بين الراقصين، الناعم تارة والمتوتر طوراً، صدّره عمر راجح في آخر العرض إلى عينة جامدة، أكثر ضخامة وسلبية وواقعيةً: الجمهور. دعاه راجح لملء المسرح بفوضويته ومجهوليته، مدركاً أنه سيأخذ شكل كتلة «غير منظمة»، فجة، ستتجانس فقط بشرط الطاولة نفسها.

* «بايبود ــ 12»: حتى 30 نيسان (أبريل) ــ «مسرح المدينة» (الحمرا ــ بيروت) و«مسرح بيريت» (طريق الشام ــ بيروت). للاستعلام: 01/218040