رعب
أُبحر في المواقع الالكترونيّة فأرتعب. تعصُّبٌ دمويّ يفوق التصوّر. وصل المسلمون بهذا التراشق الالكتروني بين سنّة وشيعة إلى سقف الحقد، إلى قعر الغريزة.

نخجل من يوميّاتنا وحولنا هذا الرعب. كيف نواصل عيشنا، تفكيرنا، كتابتنا، ومدّ الصراخ إلى التذابح السنّي _ الشيعي يطرطق الأبواب. مَن هي هذه الأيدي؟ مَن هم أصحاب هذه المولّدات العدميّة؟ لماذا هم متروكون على غاربهم كأنّ الدنيا العربيّة سائبة لهم؟
يقال إنّ الصراع اللفظي يُنفّس الاحتقان الدموي. نتمنّى. نكون عندئذٍ قد انتفعنا من العار. العار العاري.
إلى ذلك الحين، رعب. بالأمس مسيحيّون ومسلمون واليوم سنّة وشيعة. تسونامي أسود لا يكاد يهدأ حتّى يعود تحت مسمّى جديد. ما مقياس إنسانيّتنا؟ هل لنا عقول؟ مَن يوقف هذا التدهور؟
لا يلوح أحد بل يحاصرنا النقيض. طوفان النقيض. هل يظلّ طرفٌ في العرْق والدين لا يحمل السلاح على الطرف الآخر؟ ما علاقةُ هذه المجتمعات بالحياة؟ والذين يدّعون قيم الحياة، قيم الرحمة والخير، هل هم طبقةٌ هامشيّة تطفو كالضباب على وجه المحيط؟ مجرّد غشاوة؟ كيف يزعم زاعمٌ أنّنا أمّة الأديان السماويّة، أمّة الشعر، وشعوبنا غوغاء أسنانها سكاكين؟ أيّ دين نتحدّث عنه ونحن غارقون في الإبادات، لفظيّة ومعنويّة وفعليّة؟ هل ما زال في سوريا ترابٌ لم يُتْخَم بالدم؟ هل بعدُ في العراق سنّي لا يكره شيعيّاً، والعكس؟ هل في مصر نهرٌ أم قهر؟ وفي لبنان، هل بَعْدَ تقسيمنا طوائف وتقسيم تقسيمنا داخل الطوائف، مُسْتَنَدٌ يخوّلنا الكلام على دولةٍ ووطن؟ وفي فلسطين والسودان وتونس والبحرين؟ والمهجر!؟
... ما لم تكن فينا الرحمة فكيف ننتظرها من الخارج؟
«باسم الله الرحمن الرحيم»... أنت، أنت المتبرّك بهذه الجملة، أين الرحمة فيكَ وأنت تفحّ هذا الفحيح، وباسم الإسلام، ملء المواقع الالكترونيّة، ملء ضميرك؟
أيُّ رحمةٍ في هذا الحقد؟ في هذا التحريض على الشقاق والدم؟
ما لم تكن فينا الإنسانيّة فنحن قبائل من الوحوش.
من الوحوش البشعة.
من أبشع الوحوش.

■ ■ ■

أيكون الأبرياء من شهوة القتل أقليّة بيننا إلى هذا الحدّ؟ واهَلَعي! أضحت الحياة، مجرّد البقاء على قيد الحياة، معجزة! شكراً أيّها المارّة أنّكم لا تطلقون علينا النار، شكراً أيّها السائقون أنّكم لا تدهسوننا، شكراً أيّها المأجورون والزعماء والعملاء أنّكم تدعوننا ننقرض بسلام نحن المسالمين، شكراً أيّها الحافرون خنادق الإبادة أنّكم حتّى الآن تركتمونا نعيش!...
وحتّى لو كان المسالمون أكثريّة صامتة، فلماذا هي صامتة؟ صامتة، إذاً راضية أو جبانة. صامتة، إذاً أقليّة ولو كانت ملياراً.
ونحن، وأنا، من هذه الأكثريّة الجبانة. وحتّى لو أفصحتُ عن ذنبي لا أُعفى منه. وحتّى لو لم يكن ميزان القوى بيننا نحن المسالمين وبين الوحوش متكافئاً، لا نُعفى من المسؤوليّة. ماذا نستطيع أن نفعل؟ نجتاح الشاشات والصحف والمواقع الالكترونيّة والساحات والمنابر والمساجد والشوارع بصراخ السلام وهتافات فَضْح الوحشيّة، ولو تَسمَّت بالتاريخ، ولو تَسمَّت بالدين.
نستطيع أن نعلن مروقنا، أن نحرق ماضينا الذي يقتلنا، أن نحرقه ونبرأ من الانتحار.
ليس إيماناً ما يجعلنا نَكره.

■ ■ ■


مع مَن نتخاطب؟ مَن هم رفاق الحياة؟ مَن يسمعنا؟
لاجئون مثلنا إلى أقبية الهروب والوهم. إلى النوم. إلى حبال الخرافة.
لهؤلاء ننسج كلام التسامح والحبّ.
لمساكين مثلنا.
لمَن يتعلّقون بدخان أحلامهم ورمادها.
لمَن يسكرون باختناقهم...



المبدأ الشعريّ

أخاف العلوم، واللفظة لا تعنيني إلّا قَدْر ابتعادها عن مدلولاتها الوضعيّة، واختلاطها بالمبدأ الشعريّ.
ولفظةُ الفنون كذلك. لا الفنون الجميلة فحسب بل كلّ أنواع الفنون.
المبدأ الشعريّ أساس الحياة، أساس العينين والقلب والتعبير والعلاقة. منذ البداية كتبتُ للشعراء، للذين سيصبحون شعراء، للشعراء بالفعل وللشعراء بالقوّة، بالممكن، للشعراء الذين تناجيهم مخيّلتي أطفالاً وأصدقاء ومعلّمين.
وللنساء كذلك.
ولهذا الورق الأبيض.
المبدأ الشعريّ حين يكون موجوداً في شيءٍ أصبحُ مع الشيء، في شخصٍ يصبح الشخص أخي، في أرضٍ تصبح الأرض وطني، في صورةٍ تغدو الصورة غايتي، في صوتٍ يغدو الصوت ضميري، في وجهٍ يصير الوجه يداً من أيدي الله.
ليس هو الشعر الذي نطالع بل روح الشعر التي جلست في كيان الكاتب واتّخذته قلماً وورقة.
ومبدأ الشعر لا ينتسب إلى المدارس الأدبيّة بل إلى معجم التكوين، حيث تتوارى عقدة الأسرار.

إغلاق حياة قديمة

«أحبّه... أحبّه... لكنّني وحيدة!» تتأوّه إيبونيم في احتفال «البؤساء» الموسيقي الغنائي المأخوذ في لندن عن رواية فكتور هوغو.
«وحيدة». أليس ذلك حتميّاً؟
أليس... أفضل؟
في البدء كان الوحيد. وفجأةً عَبَر الوحدة لحظة أشرق عليه الحبّ.
ولسببٍ ما، لنُسمِّهِ لعنة الوقت، بدأ النزول...
ضجرٌ ونفور.
كسوفٌ وراء كسوف.
ويعود الوحيد وحيداً. مع فرق: هذه المرّة وحدة بعد شراكة.
تلك هي الخيبة. بل ذلك هو السقوط.
وكما كانت البداية أوّل حياة يصير هذا الخسوف أوّل موت.
من الغشاوة النعيميّة إلى الإبصار الرمادي.
العزلة.
العزلةُ حاصلةٌ حتماً.
حتّى لو عدنا واجتزناها إلى شراكة، سنعود إلى عزلة.
وما دام الأمر كذلك أليس التسليم أفضل؟
أي: العزلة أفضل من التساكن اليومي المميت؟
سؤالٌ وقح، حقّاً. وخاصة أنّ إحدى صيغ توجيهه يمكن أن تكون أيضاً: أليس عدم الارتباط أفضل من الارتباط؟
وفقاً لملفٍ نشرته هذا الشهر مجلّة «لو كورييه انترناسيونال» نقلاً عن تحقيقات أجرتها بضع صحف ومجلّات في مختلف بلدان العالم وبينها لبنان (عن الزميلة «لوريان لوجور») أنّ الزواج في انحسارٍ كبير والطلاق في ازدهار.
السبب الأوّل: خشية مضاعفات المساكنة، من مللٍ وخيبة ونفور وسقوط من علوّ الأحلام. السبب الثاني: تحرّر النساء واكتفاؤهنّ الاقتصادي. السبب الثالث: شيوع أسلوب المساكنة بلا زواج، وهو ما بدأ ينتشر في لبنان.
نحن هنا في صميم مواجهة مشكلتَي الوحشة والصدمة. بالفرار أو بنذر العنوسة أو بتقسيط العلاقة. وكلّ هذا التفافٌ على الوحشة والصدمة واحتيالٌ على العلاقة والتهرّؤ بفعل الزمن.
وَصَلْنا إلى الخوف المعلن من الارتباط، أي من الحياة القديمة، فهل نبلغ إلى الخوف المعلن من التعارف، مجرّد التعارف، خشية أن توقعنا المصافحة أو المجالسة في المَصْيَدة؟
أفهمُ الانحسار والانكماش أكثر ممّا أفهم التزاوج. صورتي عن المرأة مهْوارٌ جاهز. كذلك صورتي عن الإنسان عامّةً. أَعتقدُ أنّنا نولد من الشراكة إلى الوحدة، وننشأ بين آخرين يعمّقون فينا الوحدة ونموت وحيدين، وأنّ الحبّ ينقذنا من وحشيّتنا ولا ينقذنا من الغربة، فلماذا نحمّله عواقب اللعنة، لعنة الوقت؟
«لأنّي أحبّه صرتُ _ سواء لتجاوبه أو لعدم تجاوبه _ أشدَّ وحدة»، عبارةٌ لعلّها أقرب إلى الصواب من السطر الذي بدأنا به هذه الكلمة.