تونس | كما كان متوقعاً، حقّق عرض فيلم «ما نموتش» إقبالاً جماهيرياً حطّم كل الأرقام القياسية التي شهدتها «أيام قرطاج السينمائية» الأخيرة على مدى نصف قرن. في شريطه الجديد، يواصل النوري بوزيد (1945) معركته من أجل الحرية والتسامح. لكن في هذا العمل، هناك رسائل جديدة يوجّهها السينمائي التونسي الى الحكام الجدد في بلده بعد تعرضه لاعتداء في نيسان (أبريل) ٢٠١١ بعد دعوة فنان راب مقرّب من الإسلاميين إلى تصفيته. مضمون هذه الرسالة كما قال النوري «لن تقدروا على قتلنا ولا على قتل روح تونس المتسامحة والمحبة للحياة».
في قلب القصبة المدينة العتيقة التي ارتبط اسمها بالتحولات الكبرى في التاريخ التونسي باعتبار احتضانها مقر الحكومة منذ العهد الحفصي (القرن الثالث عشر)، تدور أحداث «ما نموتش». عرفت هذه المنطقة باحتضانها لكل الأديان من مسلمين ويهود ومسيحيين، كما تحوي جامع «الزيتونة» الذي يعدّ أول جامعة في العالم العربي الاسلامي، وقد كان على مدى قرون منارةً لنشر ثقافة التسامح التي يدافع عنها المذهب المالكي، وهو المذهب الرسمي لدول المغرب العربي.
في هذا الحيّ، تعيش عائشة (سهير بن عمارة) وزينب (نور مزيو) اللتان شاركتا في الثورة التونسية. عائشة فشلت في علاقة عاطفية فأصيبت بحالة حزن عميق وتفرّغت لتربية شقيقتيها بعد رحيل الام. أما زينب، فتعيش مع عائلتها التي تحيطها بالحنان وترتبط بابراهيم (لطفي العبدلي) رجل الأعمال المقيم في فرنسا. يجمع الحجاب بين الفتاتين، فإبراهيم يفرض على خطيبته زينب ارتداء الحجاب للتقرب من القوة السياسية الجديدة الصاعدة أي الإسلاميين. فيما تلجأ عائشة الى ارتداء الحجاب لمواجهة خوفها الباطني من المجتمع، فيسبّب حجابها أزمة اقتصادية لصاحب محل الحلويات الذي تعمل فيه على اعتبار أنّ شكلها الجديد سينعكس سلباً على إقبال الزبائن، في حين يتحول حبيبها حمزة شقيق زينب السجين السياسي والإسلامي المتطرف الى رجل هادئ ينشد حياة بسيطة بعد هروب زين العابدين بن علي.
في مواجهة الخطّين المتصاعدين، يقدّم صاحب «ريح السدّ» حكاية أخرى تبدو على هامش البناء الدرامي للفيلم، لكنّها في قلب الاحداث. عازف الأكورديون الأعمى الذي يجسده النوري بوزيد، فنان هامشي يموت بلا هوية، بلا أهل، ولا عائلة ويدفن في قبر مجهول بعد أن يعثر عليه ميتاً في الشارع إثر قتله على يد متطرفين إسلاميين. عازف الأكورديون الهامشي الأعمى هو سرّ الشريط الذي ينتهي بأن تحمل زينب وعائشة الأكورديون وتتعالى الموسيقى وتتخلص عائشة من حجابها وتنطلق في أزقة المدينة العتيقة على إيقاع الموسيقى والغناء.
شريط «ما نموتش» الذي جمع فيه النوري بوزيد ممثلين الشباب مثل لطفي العبدلي وسهير بن عمارة ووجوهاً من جيل الستينيات مثل عبد العزيز المحرزي هو حلقة جديدة من مشروع بوزيد الذي بدأه بـ «ريح السد» (1986) و«صفايح ذهب» (1988) وواصله في «آخر فيلم» (2006). يقوم هذا المشروع على إدانة الاستبداد والقمع الفكري والسياسي. «ما نموتش» الذي يرصد تحوّلات المجتمع التونسي ووضع المرأة في ظلّ نمو التيار الإسلامي، برهن عن نضج كبير في المستوى الفني والتقني، فالشريط مفعم بالمشاهد ذات الشعرية العالية، خصوصاً مشهد تغسيل العازف الأعمى «عمو». «ما نموتش» مؤلم وموجع ومثير للأسئلة، وتلك هي شروط السينما الجميلة التي يبقى بوزيد أحد صنّاعها. وقد شكّل العمل الحدث لدى عرضه في الصالات، خصوصاً أنّه يتزامن مع التجاذبات التي تشق المشهد السياسي التونسي بين الإسلاميين، الحكّام الجدد في تونس، والقوى الديمقراطية التي يمثل بوزيد أحد رموزها، وقد دفع الثمن سجناً وحصاراً وتهديداً بالقتل.



نشيد الحرية والتسامح

«ما نموتش» الذي كتبه النوري بوزيد قبل الثورة ثم أعاد صياغته بما يتلاءم مع مستجدات المشهد التونسي، يشكّل صرخة احتجاج ضد الموت الذي تبشّر به التيارات المتطرفة. وأكّد بوزيد في تصريح أنّ شخصية عازف الأكورديون الأعمى لم تكن موجودة، بل أضافها بعد الاعتداء عليه (الأخبار 29/8/2012). وقال إنّه أراد أن يقول للذين يتوعدّونه بالقتل إنّه لن يموت حتى ولو قتل، فهناك من سيحمل الرسالة: رسالة الحياة والفن والحرية. وقد اختار المرأة التونسية لحمل هذه الرسالة. لذلك أهدى شريطه اليها واستعان للمرة الأولى بكتابة شابة في صياغة السيناريو وهي جمانة الامام.