من استديو صغير في منطقة العدلية، بدأت تجربة «زقاق». انطلقت الأفكار، وورشات العمل، والتحضيرات، والتمارين لتترجم في عروض متواصلة. بعد ست سنوات على تأسيس الفرقة، صارت قادرة على تقديم عروض على مدار العام. في الفترة الأخيرة، شاهدنا «خيط حرير» من إخراج مايا زبيب في بيروت، قبل أن يقدم في ألمانيا، والمرجح عرضه أيضاً ضمن فعاليات «مرسيليا عاصمة للثقافة الأوروبية 2013»، إلى جانب عروض «منمنمات» لعمر أبي عازار ودانيا حمود، علماً بأنّه خلال الشهرين السابقين واصلت زبيب تقديم عرض «علبة الموسيقى» في لوكسمبورغ، وبروكسيل، وويليام تاون، إضافةً إلى تلبيتها دعوة من فرقتين في مدينتي كريفلد ومونشين غلادباخ في ألمانيا لإخراج مسرحية مشتركة ضمن مشروع يدعو كل عام فناناً غير أوروبي إلى إخراج عمل من تمثيل أعضاء الفرقتين، على أن تتابع التمارين ليقدم العرض في أيلول (سبتمبر) 2013.
أما في لبنان، فتدير الفرقة ورشات عمل مع جمعية «كفى» بهدف تقديم عروض تشارك فيها نساء معنّفات. وهناك تمارين جارية حالياً على نصّ «الإمبراطور والجليليّ» للكاتب النروجي هنريك إبسن، ويتولى إخراجه جنيد سري الدين، على أن يقدم على الخشبة في كانون الثاني (يناير) 2013، تحت عنوان «أليُسانه/ تدريب على الطاعة».
«زقاق» التي لم تبتعد أعمالها عن المجتمع الذي ولدت فيه، قدّمت أخيراً عملاً جديداً تحت عنوان «مشرح وطنيّ». إنّه عرض يسائل كتابة التاريخ اللبناني، وقد قُدم في مناطق الشويفات، وتبنين، والمشرف، وضهور الشوير، وبرج حمود، والجميزة، وزغرتا، ثم في بيروت، قبل أن يُعرض أخيراً في صور وسن الفيل.
نشأ العرض من ورشة عمل مع «مركز الديموقراطية المستدامة» بهدف إنتاج عرض مسرحي اجتماعي تفاعلي يحث على المطالبة بحق المعرفة. تركيبة العرض الذكية ببساطتها تبدأ بقراءة ممثلَين لنص مثبَّت في عمق المسرح. النص كناية عن تاريخ لبنان «المتفق» عليه... التاريخ الذي يُلصق التهم بالآخر، ويعفو عن المجرمين بقانون صدر عام 1990، ليطوي صفحة الحرب مع ضحاياها ومفقوديها وجراحها، منطلقاً نحو غد جديد لبلد اعتاد النسيان. يدعو الممثلان الجمهور إلى قراءة النص نفسه بطريقة معكوسة. لعبة لغوية تشقلب المعنى، وتفضح أسرار الحرب، فيتحول البطل إلى مجرم، وتُحاط الوقائع المثبتة بالشكوك. بداية قوية تأسُر المشاهد، وتنسحب على مشاهد العرض الأخرى، حيث لكل رواية أكثر من قراءة. هكذا، سنشاهد شخصية ثالثة تلعب دور «جثة التاريخ اللبناني»، حيث يتم تشريح التاريخ اللبناني غير المكتوب. المقتول على حاجز الهوية يصبح قاتلاً، والقنّاص يصبح جثة مرمية في الشارع. يسري ذلك على مجازر صبرا وشاتيلا، والجزار في حرب الجبل، وأحداث أيار 2008، والمقاوم والخائن في حرب تموز 2006. لكلّ شخصية نظرتها المضادة لشخصية أخرى تجاه الحدث نفسه. أما جثة التاريخ، فتتحول من دور القابل بجميع الإسقاطات المتضادة، إلى الذاكرة التي نسيت كل شيء، وصولاً إلى إنكار تلك الأحداث. هنا يجرّ الممثلان الجمهور إلى سرد قصصه الذاتية عن حروب امتدت من عام 1975 حتى اليوم، في محاولة لإنعاش ذاكرة التاريخ اللبناني. قصص موجعة وحزينة ووحشية يتشاركها الجمهور، لكنها قصص لا تُقال غالباً، بل يلفّها الكتمان الذي يولّد الحقد وسوء الفهم. بحسب أعضاء فرقة «زقاق» الذين يتناوبون على تقديم العرض في المناطق المختلفة، كانت تجربة تقديم المشروع في الجامعات هي الأكثر تفاعلاً بين طلاب من بيئات وخلفيات مختلفة في رواية تاريخ حربٍ لم يُكتب بعد. نشير هنا إلى الأسلوب الاستفزازي الذكي الذي ينتهجه العرض عبر مخاطبة الجمهور مباشرة، وتسمية الأحداث والمعارك بأسمائها، إضافةً إلى الوصف الدقيق لجرائم فظيعة، وتجسيد حالات تعذيب عنيفة، وهو ما يحقن الجمهور ويصيبه بعدوى العنف اللفظي والجسدي الموجود في العرض، ويكسر حدّة الصمت من خلال القصص التي يرويها الجمهور. هكذا، يكسر العرض الجدار القائم بين الممثلين والجمهور. «مشرح وطني» محاولة مسرحية لكتابة التاريخ الشفوي الدامي للبنان، وتكريس حق المعرفة بما حصل، وضرورة الاعتراف والشفاء بدلاً من الهروب إلى الأمام، ومتابعة الحرب بطرق أخرى في زمن السلم الأهلي المهدد بالانهيار في كل لحظة.