بعد غياب طويل عن المسرح، عاد منذر بعلبكي بـ«حركة العين السريعة». في مدخل فضاء «أشكال ألوان» (جسر الواطي ـ بيروت)، دعا الجمهور إلى عرضه الذي قدمه لثلاث ليالٍ. هناك، تجمّع الجمهور في ممر واسع يخلو من المقاعد، باستثناء سلّم على مقربة من الحائط. دخل منذر إلى مساحة العرض. صعد السلم، ورماه أرضاً، لنجده واقفاً وسط الحائط على حافة ثُبِّتت في المنتصف. مستعيناً بالفيديو، يلقي منذر صورة بيضاء على الحائط حيث يقف.
خلال العرض، تتبدل الصورة برسومات بسيطة، أو بعلامة استفهام أو كلمة تظهر إلى جانب منذر. أما العرض، فيقوم على مونولوج يؤديه بعلبكي تسجيلاً، فيما هو يقف أمام الجمهور ينظر إليه تارة، ثم يستدير برأسه يمنةً أو يسرةً، يجلس على حافته الصغيرة، ثم يعود فيقف. كل حركة تصبح محطّ انتباه المشاهد الذي يستمع إلى مونولوج مسجّل (40 دقيقة)، ويرى أمامه ممثلاً معلقاً في وسط الحائط، يتحرك أحياناً. أما نصّ المونولوج، فهو حكاية حلم، وأحلام تتوالى، فتختلط ببعضها، وتمحى الحدود الفاصلة بين الواقع والحلم. نصّ لن يخلو من أسلوب بعلبكي الكوميدي، التهكمي، والمضحك المبكي. أهو عرض مسرحي، أم تجهيز مسرحي، أم عرض مفاهيمي؟ ليس مهماً تصنيفه. الواضح أنّ بعلبكي عاد إلى المسرح كي يعيد خلق كل الأوراق بطريقته الخاصة. إنه ليس عرضاً مفاهيمياً يوجب على المشاهد إعادة قراءة كتب تاريخ الفن، ونصوص الفنان لمحاولة فهم العرض المقدم. النص بسيط في طرحه، وعميق في أبعاده، وكل مشاهد حرّ في الغوص في تفاصيله أو الاكتفاء بالمعنى الأول للنص. رغم ارتكازه على النص بشكل أساسي، إلا أنّه لا يتخذ أسلوب العرض الأدائي على شكل محاضرة كأعمال تابعناها لربيع مروة ولينا صانع، بما في ذلك من موقف ينتقد الشكل المعهود للمسرح ولغته. لكنّ الموقف الذي يطرحه بعلبكي من المسرح مختلف هنا. يلجأ إلى اتخاذ صفة الممثل، لا الراوي أو المحاضر. لكن ذاك الممثل لن يتكلم، سيتخلى عن سلاح النص، والكلمة في المسرح، ويسلمه لآلة التسجيل. سيعلّق الممثل نفسه في وسط الفضاء المسرحي، مرفوعاً عن الأرض ومرتفعاً عن خشبة مسرحه. أما الذي يرويه، فهو حكايات شخصية تقدم بصيغة الأنا المونولوجية لممثل صامت على الخشبة، لكن ناطق عبر مكبرات الصوت. معطيات يلغي بعضها بعضاً: المساحة ليست مسرحاً، لكنّها تستقبل عرضاً مسرحياً. الممثل فوق الخشبة، ومرفوع فعلياً عن الخشبة، ليؤدي دوراً لن يؤديه، بل سيسلّمه لمكبرات الصوت، فيما النص يسافر في عالم الأحلام. طرح بسيط في شكله، لكن بليغ في تشريعه الباب على أسئلة كثيرة عن المسرح، وموقع كل من الممثل، والمشاهد، والنص، والمساحة من المسرح.
صوّر آندي وارهول مرةً عشيقه وهو نائم، ليشكّل من تلك المادة فيديو كاملاً لا يحدث فيه أي فعل سوى النوم والحلم. يومها، قدّم العمل للجمهور حيث الممثل يشاهد قصة لا يستطيع الجمهور مشاهدتها. وفي عرض منذر بعلبكي، مع اختلاف الطرح كأنك تشاهد عرضاً لم يحدث.