الرباط | مهمة تعريب نصّ بقيمة «نادجا» (1928) لرائد السوريالية أندريه بروتون (1896 ـــ 1966) مهمة شاقة. لكن بعد سنوات من الاشتغال عليها، نجح مبارك وساط إلى حدٍّ كبير في تعريب نص مؤسس في الأدب السوريالي الفرنسي (منشورات الجمل). وساط الذي يصفه كثيرون بالشاعر السوريالي رغم نفيه لهذه «التهمة»، يتمتع باطلاع واسع على المنجز الأدبي في هذا التيار. اكتشف السوريالية في مراهقته، ومنذ ذلك الحين، اشتغل على العديد من النصوص من هذا الأدب، قارئاً وممحّصاً ومترجماً لها. في «نادجا»، نلمح هذا الاتكاء على ثقافة موسوعية لإغناء النص الأصلي من خلال ملاحظاته الدقيقة وشروحاته، وتعريفاته بالأماكن والأسماء في الهوامش. لسنا هنا أمام ترجمة للنص الأصلي فحسب، بل أمام شرح لسياقات تاريخية ومعرفية، رافقت إنتاج العمل، وحياة مؤلفين ورسامين وشخصيات صنعت التاريخ والثقافة الفرنسية المعاصرين.
الهوامش ميزة هذه الترجمة؛ لكونها تستعيد سير الشخصيات المذكورة في العمل وأهم ما قدمته. في بعض الأحيان، نجد وساط يشرح إشارات إلى نصوص وأعمال أدبية تظهر في النص. مثلاً، حين يذكر بروتون قصيدة «شيطان المماثلة» لمالارميه، يفتح المترجم الهامش كاتباً: «إنّها عنوان قصيدة نثر (بالمعنى الغربي) للشاعر الفرنسي مالارميه، وتكتسي الاستعارات وكشف المماثلات، وخصوصاً الشديدة الخفاء، أهمية كبيرة لدى السورياليين».
إلى جانب تجربته الشعرية مع دواوين «على درج المياه العميقة»، و«محفوفاً بأرخبيلات»، و«راية الهواء»، ترجم وساط رواية «المرتشي» للطاهر بنجلون، و«شذرات سفر منسي» لعبد اللطيف اللعبي. وترجم أيضاً قصائد لمحمد خير الدين، أبرزها «غثيان أسود»، ونصوصاً لجمال الدين بن الشيخ، وهنري ميشو وآخرين. لهذا، فقد جاء الشاعر المغربي إلى نص «نادجا» متسلحاً بزوّادة معرفية مكّنته من نقل النص من دون تشوهات الترجمة، وركاكتها التي ترافق العديد من الترجمات الأدبية التي تنجز في السنوات الأخيرة.
يُعَدّ «نادجا» من أهم النصوص التي كتبت في السوريالية. بعد لقاء غريب مع امرأة في تشرين الأول (أكتوبر) 1926، انطلق بروتون في كتابة هذا النص. سنتان استغرقهما النص (سيرة ذاتة) للخروج إلى النور، ويعيد سرد سيرة الأيام التسعة إلى جانب امرأة مجنونة، اختبرت الأدب في الحياة. «يبدو لي أنّي شديد السبر لنادجا، لكن كيف لي أن أتفادى ذلك؟ كيف تنظر هي إليّ، كيف تحكم علي؟ إنّه أمر لا يغتفر أن أستمر في لقاءاتي معها إن كنت لا أحبها. أنا لا أحبها؟» (ص 107). ربما من هنا ينطلق كل شيء. نادجا، نادية، لا تترك بروتون محايداً. تجرّه إلى الاعتراف بهذا الالتباس في المشاعر الذي يتلبسه كلما جالا شوارع باريس. تقف نادجا حيناً أمام نافذة مغلقة، وتتشبث بشباكها، متسائلة عمن كانت ستكون في حاشية ماري أنطوانيت، وحيناً آخر تردد عبارات من قبيل «القبلة فيها تهديد ما» أو «لم هذه اليد المشتعلة على الماء؟». سواء نطقت بهذه العبارات أو لا، فقد ألهمت نادجا بروتون نصاً أدبياً بعد تسعة أيام من التسكع في ساحات باريس وقصورها ومطاعمها وحاناتها. كتب بروتون جزءيه الأولين في صيف 1927، قبل أن ينهيه في كانون الأول (ديسمبر) من السنة نفسها. عن فترة التوقف هذه، يقول في «نادجا»: «عشت تحت وطأة انفعال يستبدّ بقلبي أكثر مما يسيطر على ذهني». عاد بروتون سنة 1962 إلى الرواية لينقّحها وأُعيد طبعها عام 1963. يقول عن هذه التجربة: «إذا كانت كل محاولة لتنقيح تعبير عن حالة عاطفية، بعد مرور وقت على صياغته الأولى، أمراً محكوماً عليه بالفشل والنشوز، نظراً إلى استحالة عيش تلك الحالة مجدداً (...) فقد لا يكون ممنوعاً على الكاتب أن يسعى إلى جعل بعض تعابيره أكثر ملاءمة وانسياباً». نحن إذاً أمام عمل مرّ بمرحلتين، وأعاد مؤلفه النظر فيه بعد عقود، وأربع سنوات فقط قبل موته، ما يدلّ على مركزيته في أعماله الأدبية.
يعمد بروتون إلى تقسيم «نادجا» إلى ثلاثة أجزاء. يتحدث عن حياته قبل لقائه بها، ويحكي عن علاقته بها، هي المرأة الشغوفة بالأدب، وبالحياة، المجنونة، المستبصرة قبل أن يحادثها بصيغة المتكلم. كتابة العمل ــ حسب دارسيه ــ تقريرية في الكثير من مقاطعها. ولأنّ بروتون كان ضد الكتابة التقليدية، فقد لجأ إلى تقنيات عدة من بينها حضور الصورة الشخصية، وصور الأماكن، وأفيشات الأحداث، وصور المخطوطات. نادجا «تلك المرأة الملهَمة والملهِمة على الدوام، التي لم تكن تحبّ أن تكون إلا في الشارع، باعتباره حقل التجربة الوحيد الملائم» (ص 129) شخصية حقيقية تُدعى ليونا ديلكور. اختارت لقب نادجا الذي هو بداية كلمة «أمل» بالروسية، لتحفظ الأمل في حياتها التي راوحت بين المشافي العقلية، وصخب الحياة الحقيقية. لم ترض ليونا عن الكِتاب، وأوضحت ذلك في إحدى رسائلها لبروتون. رأت نفسها مشوهة في نصه، ربما لأن وعيها بذاتها يختلف. قلقة كانت دوماً، أنهت حياتها في مصحّ عقلي عام 1941. كأنّ بروتون حدس بالأمر في نهاية الكتاب، وهو يقول: «سيكون الجمال مختلجاً، وإلا فلن يكون».