القاهرة | في كتابه الأشهر «في الشعر الجاهلي»، يخلص طه حسين إلى أنّ معظم قصائد الجاهلية ومعلّقاتها الشهيرة ليست لأصحابها «وإنما هو انتحال الرواة، أو اختلاق الأعراب، أو صنعة النحاة، أو تكلف القُصَّاص، أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين».
العاصفة التي أثارها كتاب «عميد الأدب العربي» معروفة وما زالت قضية غير محسومة إلى اليوم، لكن على نحو أكثر طرافة، تشهد منتديات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، نوعاً جديداً من الانتحال الشعري العربي، المصري على وجه الخصوص، من أهمّ أبطاله ــ بالأحرى ضحاياه ــ شعراء العامية المصرية الأشهر: صلاح جاهين (1930 ــ 1986) وعبد الرحمن الأبنودي (1938) وأحمد فؤاد نجم (1929). الانتحال هو أن يقوم مؤلف مجهول ما بتأليف قصيدة، ثم ينسبها إلى اسم شاعر شهير، فيتداولها الناس على أساس ذلك. في ذروة صراع شباب الثورة المصرية مع «العسكر»، انتشرت رباعية منسوبة لصلاح جاهين، تبدو كأنّها كتبت اليوم، وذلك لأنّها فعلاً كتبت اليوم! تقول الرباعية: «يا عسكري واقف بالفرس على جتتي/ لا انت البطل ولا انت فتوة حتتي/ يوم ما تقول هاخد البلد/ هقولك خدها بس على جثتي». وتنتهي الرباعية بكلمة «عجبي» المميزة لكل رباعيات الشاعر الشهير الراحل.
بعيداً عن تواضع المستوى الفني للرباعية المذكورة، وبعيداً عن صياغتها المباشرة التي تظلم شاعراً اشتهرت رباعياته بالبعد الفلسفي، وخصوصاً الوجودي، إلا أنّ ثمة سبباً أهون يرفض نسبها إلى «العم جاهين»، هو أنها ليست فقط مكسورة الوزن، بل متكسّرة الوزن أيضاً، يكاد ألا يستقيم فيها شطر مع الآخر. مع ذلك، فقد انتشرت في كل صفحة وعلى كل لسان، إلى درجة دفعت سامية جاهين، ابنة الشاعر وعضو فرقة «اسكندريلا» إلى مناشدة مستخدمي الفايسبوك عدم تداول «الرباعية»، مؤكدة أنّها لا تنتمي إلى شعر والدها، لكن مناشدة الابنة ذهبت بلا جدوى. لم يتوقف تداول الرباعية التي ليس بها من الرباعيات سوى أنّها أربعة أسطر، إلا عندما انتهت المواجهات مع المجلس العسكري بإزاحة المشير طنطاوي والفريق سامي عنان.
لكنّ صلاح جاهين كان مرة أخرى ضحية نوع أغرب من الانتحال، عندما انتشرت على الفايسبوك رباعية أخرى تقول «يا شعب نايم ع الرصيف/ وبالمقشة بتتكنس/ فيك ناس بتشقى ع الرغيف/ وناس بتتعب من التنس». هنا المقطع موزون على الأقل، لكنّ غرابة نسبته إلى جاهين تنقسم إلى مستويين: الأول أنّ مؤلفه ليس مجهولاً، بل شاعر عامية معروف هو الراحل فؤاد قاعود. أما المستوى الثاني، فهو أنّ الأبيات التي كتبها قاعود في السبعينيات، كانت تقول «المجتمع زي الرصيف/ وسخ وعايز يتكنس»، غيّرها المنتحل المجهول إلى «يا شعب نايم ع الرصيف وبالمقشة بتتكنس» ثم نسبها إلى صلاح جاهين!
أما الشاعر عبد الرحمن الأبنودي فقد جرى معه نوع من انتحال «المناسبة» لا الكلمات! انتشرت على الانترنت قصيدة «رسالة إلى الإخوان المسلمين» من كلمات الأبنودي، ولاقت شعبية كبيرة. يقول مطلع القصيدة: «كان لي أخ/ رفقا فى السرا وفي الضرا وفي الثورة/ وفي الحلوة وفي المرة/ سنين وسنين/ نقول ونقول وما نبطلش جخ/ كان لي أخ/ نتحبس مانقولش آه/ نتضرب مانقولش أخ/ أحلى لحظات التعاسة علمتنا الزنازين». وتستمر القصيدة إلى أن تصل إلى الفراق بين الراوي الثوري والإخوان كما ادعى مروجوها، فتقول «يعني لاجل ما أستردك تاني من تاني/ صديقي/ ورفيق باقي طريقي/ لازم أتخلى عن الرأي الحقيقي/ لازم أتخلى عن الوعي الحقيقي/ لازم أتخلى عن القلب الحقيقي/ لازم أتخلى عن الشعر الحقيقي».
في الواقع لا أحد يجهل موقف الأبنودي السلبي من جماعة الإخوان، وهو لم يخفه يوماً على أي حال، لكنّ القصيدة المذكورة لا علاقة لها إطلاقاً بهذا الأمر، بل هي من ديوان «الاستعمار العربي» وهو مطولة شعرية كتبها الأبنودي نهاية عام 1990، كرد فعل على الغزو العراقي للكويت وما صاحبه من تداعيات ومآس.
أما أحمد فؤاد نجم، فله موقفه المميز من هذه الانتحالات. لطالما أعرب عن عدم انزعاجه منها، بل ترحيبه بها. وقبل «ثورة يناير»، انتشرت قصائد منسوبة إلى «الفاجومي»، معظمها هجوم على مبارك ونجله جمال، الذي كان وريثاً محتملاً للحكم، ومنها «نؤيد سيادتك لفترة جديدة/ نكمل خلالها المسيرة السعيدة/ وبالمرة فيها نبيع الحديدة/ مفيش حاجة تانية نبيعها خلاص». كانت تلك القصائد المزيفة تنتشر عادة تحت عنوان «آخر قصيدة لأحمد فؤاد نجم»، لكنّ معظمها ــ بغض النظر عن تفاوت المستوى الفني ـ لم يكن يفرق جيداً بين اللسان السليط، واللسان اللاذع، لكنّ «الفاجومي» كان يعلّق على ذلك دوماً بعبارة واحدة هي «بيستخبّوا فيّ» (يحتمون بي)، فالشاعر الذي عاش دوماً اليوم بيومه لم يخش يوماً السجن ولم تشغله خلافات الملكية الفكرية.



مظفر النواب أيضاً

وقعت إحدى الصحف العربية ذات مرة ضحية عملية تزوير حين نشرت قصيدة ذات مستوى متدنٍّ ممهورة باسم الشاعر العراقي مظفر النواب. وسرعان ما نفى الأخير أن يكون له أي علاقة بالأبيات التي تداولتها المواقع الإلكترونية على نطاق واسع. من جانب آخر، يفتح العالم الافتراضي فرصة واسعة للانتحال من أدب الكبار من دون الإشارة إلى المصدر. هكذا، يمكن أن نقرأ أبياتاً لنزار قباني، ومحمود درويش، وسعدي يوسف، وممدوح عدوان على الصفحات العامة. كذلك، يمكن أن نرى اجتزاءً وتصرفاً أرعن بتلك الأبيات، ونسبها إلى أصحاب الصفحات.