في كتابه الذي وقّعه أمس ضمن فعاليات «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»، يدخل الكاتب المسرحي فارس يواكيم «بيت» الأغنية من أبوابها الثلاثة: النصّ (المؤلّف)، اللحن (الملحّن) والأغنية (المؤدّي). في عمله «حكايات الأغاني ـــ رحلة القصيدة من الديوان إلى الأغنية» (دار رياض الريس)، يطرح مؤلف العديد من مسرحيات الراحل شوشو (حسن علاء الدين)، أسئلة أبرزها: كيف يصير النصّ أغنية؟ وهل يبقى كما هو مكتوب في الدواوين؟ لماذا التغيير؟ وماذا يتغيّر في النصّ؟ ومَن الذي يقوم بالتغيير؟ بدايةً، لتسهيل المهمّة ولاستحالة حصر النصوص الشعريّة المغنّاة، والتغييرات التي طرأت عليها عبر العصور، إذ لكلّ أغنيةٍ حكاية بل حكايات، حصَرَ المؤلّف هذا الكتاب بالقصائد التي لم توضع بهدف الغناء، بل اختارها الملحّنون والمؤدّون وألبسوها ثوب الغناء.
عندما لبست القصيدة ثوب النغم تعرّضت للتعديل: حُذفت منها أبيات أو أضيفت إليها أبيات. واستُبدلت كلمات بكلمات. وهذه التغييرات إمّا أن يجريها المؤلّف أو المؤدّي. التغييرات التي تعتري قصيدة الديوان خلال رحلتها إلى عالم النغم لا حصر لها. وقد عقد المؤلّف المقارنات، وعاد إلى الدواوين بطبعاتها المختلفة. لا تكاد تمر قصيدة إلا أُجريت عليها أنواع مختلفة من التعديلات: حذف أبيات إمّا لطول القصيدة المكتوبة أو لأن بعض الأبيات لا تصلح لأن تُغنّى. ويعثر القارئ على عشرات الأمثلة من هذا النوع من التغيير. وأبرز الذين غيّروا عبر حذف الأبيات أحمد رامي الذي غيّر لأحمد شوقي في قصيدة: «الملك بين يديكِ» وغنّتها أمّ كلثوم، فحذف أبياتاً وأضاف إليها بيتين: «يا جنّةَ الوادي ونزهةَ روحهِ ونعيمَ بهجتهِ وراحة بالِهِ/ فاروقُ جمّلها وزانَ ضفافها عرشٌ يلوذُ الشعبُ تحت ظلالِهِ». كذلك، يذكر عن أمّ كلثوم أنّها كانت تحذف الأبيات المتعلقة بالخمر لدواعٍ دينيّة واجتماعية. وقد غنّت من «نهج البُردى» (ريمٌ على القاع) ثلاثين بيتاً من أصل مئة وتسعين. ويلفت مؤلّف مسرحيّة «آخ يا بلدنا» في هذا المجال إلى أنّ محمد عبد الوهاب غنّى لأحمد شوقي «علّموهُ كيف يجفو فجفا». وبالمقارنة، تبيّن أن ثلاثةَ أبياتٍ من القصيدة غنّاها عبد الوهاب لم ترد في «الشوقيّات» المكتوبة، وهي: «غصنُ بانٍ كلّما عاتبتُهُ عَطَفَتْهُ رِقّةٌ فانخطفا/ وإذا مثّلتُه في خاطري صفّقَ القلبُ له وهفا/ أنا سهران على عهد الهوى لم أنم وهو بعهدي ما وفا» (ص 66).
أما النوع الثاني من التعديلات على نصّ القصيدة المكتوبة فهو تعديل الألفاظ. والشاعر الأكثر تعديلاً في قصائده، أكان في حذف الأبيات وإضافتها أم في تبديل الألفاظ، كان نزار قباني الذي «رافق الملحّنين والمطربات، وكان حاضراً لإجراء التعديلات وتبديل الكلمات، حتّى إنّه في بعض الأحيان كتب نصّاً جديداً». يذكر المؤلّف هنا أنّ أمّ كلثوم غنّت من قصيدة «أصبح عندي الآن بندقيّة» التي حُذف منها البيت الآتي: «مشيئةُ الأقدارِ لا تردّني أنا الذي أُغيّرُ الأقدار». ومن التعديلات في الألفاظ لعدم الملاءمة للغناء، ما أدّته ماجدة الرومي لنزار قبّاني من قصيدة «يا ستّ الدنيا يا بيروت» بعدما أبدل الشاعر بعض الألفاظ من مثل:
«وأهديناكِ مكانَ الوردةِ سكّينا/ نعترفُ أمام الله العادل/ أنّا راودناكِ، وعاشرناكِ، وضاجعناكِ/ وحمّلناكِ معاصينا». وقد صارت الأغنية: «بأنّا جرّحناكِ، وأتعبناكِ/ بأنّا أحرقناكِ، وأبكيناكِ/ وحمّلناكِ، أيا بيروتُ، معاصينا».
يبدأ المؤلّف رحلته بالنصّ. لكنّ النصّ لا بدّ له من كاتب. ولهذا، وَجَب تعريف القارئ بعشرات الشعراء، ابتداءً من أبي فراس الحمداني وعمر الخيّام، وصولاً إلى سعاد الصبّاح وعزّ الدين المناصرة، فيقع على نبذة مختصرة لهم تتخلّلها معلومات ممتعة ومفيدة، ومنها المقارنة الطريفة بين شعر الباحث ومؤلّف التراجم والكتب الدينية عبّاس محمود العقّاد، وكيف أنّ عمارته الشعريّة لم تصمد في خريطة الغناء، وشعر أحمد شوقي السلس الذي تهافت عليه الملحّنون والمؤدّون.
ومن أبحاث الكتاب الطريفة أيضاً مقاربته لخليل مطران «أحد أركان الشعر العمودي في القرن العشرين، الذي يجعلك تشعر بأنّك إزاء شاعرٍ من العصر العبّاسي الذي كان تقليديّاً في المبنى، تجديديّاً في المعنى». وهنا يقع القارئ على معلومة أخرى حين يقرأ بأنّ «أنشودة الفؤاد» هو الفيلم العربي الغنائي الأول الذي أنتج في مصر عام 1931، كتب خليل مطران حواره وأغانيه بالعاميّة والفصحى. كذلك، يشير المؤلّف إلى أنّ خمسةَ مطربين عرباً غنّوا قصيدةً للشاعر اللبناني الياس لحّود «يا عروسَ الروض»، (ص 209 _ 212) ولم يغنِّ أحدٌ من شعره في بلده. واللافت أنّ في حكايات الأغاني بعض التصويبات والتصحيحات لبعض المعلومات الشائعة، منها أن قصيدة «هل يا ترى نعود» التي تُنسب إلى إيليّا أبو ماضي في مواقع الإنترنت، وهي لرياض المعلوف (ص 332)، فيما قصيدة «أتعجّلُ العمرَ» التي تُنسب إلى أحمد شوقي، وهي لأحمد رامي (ص 231)، وقصيدة «سنرجع يوماً إلى حيّنا» التي تُنسب إلى هارون هاشم رشيد، وهي للأخوين رحباني.
باختصار، قارئُ «حكايات الأغاني» نوعان: ذوّاقة أدبٍ وشعرٍ ولغة، وذوّاقة مغنى وطرب. فارس يواكيم جمع الاثنين في عمله، فلا الأوّل «يستخفّ» الفنّ والنغم، ولا الثاني «يستثقل» الشعر والأدب.