الاحتفاء بالرحلة والرحلات وصداقات اللحظة العابرة هو مدخل صائب إلى ديوان «دفتر العابر» (دار توبقال ـــ المغرب) للشاعر المغربي ياسين عدنان (1970) الذي بدأ بكتابته في ورشة إبداعية جمعته بالفنان التشكيلي إيتان إيفر عام 2007 في مراكش، وأنهاه خلال إقامة أدبية في كاليفورنيا. الديوان هو عصارة تجوال الشاعر خلال السنوات الأخيرة، ويضم نصاً طويلاً يكثّف الصدف التي تجعل الحياة نخباً في صحة المطارات، والحدائق الخلفية، والأطفال، و«السقف المعدني الذي تصيره السماء». رغم كتابته في أماكن مغلقة وهادئة، إلا أنّ «دفتر العابر» أشبه بسباق مسافات طويلة. يقول ياسين عدنان لـ«الأخبار» عنه إنّه «لهاث شخص يهاب المطارات، لكنه يمارسها ويمعن فيها، ويتفاعل معها كما لو كانت قصيدة».
لهذا لا يتردد الشاعر في اللحاق بنصه في أمكنة مختلفة: مراكش، برلين، القاهرة، بيروت، وأميركا... يعتني بالتنوع الجغرافي والثقافي ليخلق جسوراً تربطه بأصدقاء المصادفة.
كُتبَ كل نص من الدفتر، ربما، انطلاقاً من تجربة في الحياة. في العديد من المقاطع، تحضر الحميمية والسأم والاندهاش وخيبة الأمل. حميمية المسافر، وهو ينظر إلى النساء بمختلف أعراقهن، ويحدثهن في المقاهي والبارات والقطارات. حيواتهن المختلفة وثقافاتهن، حيث «بيغي» تكره مدينة بروكسل، لكنها تستطرد أنها لا تكره العرب... وحيث الساقية «تشطر حديقة النبض».
إلى جانب الشخصي جداً، تصير القصيدة رصداً لا يليق إلا بكتابات الرحالة القدامى والمؤرخين الذين نجد صداهم في نص «دفتر العابر». ابن خلدون إلى جانب «حكايات الشرق» المؤسسة لأدب الرحلة. لكن بقدر ما تحضر الأمكنة والفضاءات في النص، بقدر ما نجد الدوار وخيبة الأمل اللذين يصيبانه كلما عثر على مشهد يناقض الخيال الذي كوّنه عن الأمكنة مثل البحر الذي يخبره زبون حانة بأنه مجرد «بحيرة مهجورة تصير موحشة وبلا معنى حينما يشتد ديسمبر ويتجبّر الجليد». ويخلص إلى أنّه «لا بحر هناك أيها الطائر الجنوبي/ ذو الأجنحة النحاس/ لا بحر هناك/ فقط كفن أزرق شاسع يُطبقُ من فوق». هكذا يراوح النص بين الحماسة والسأم، بين المتخيل والواقع وإعادة التركيب المستمرة داخل النص.
هناك نقطة لقاء بين التواريخ والأمكنة والتقابل بين التاريخ والحاضر. نجد صقر قريش والحنين المعاصر إلى الأندلس يتجاوران مع وادي السيلكون وكاليفورنيا وحانات L.A ومكتبة «السيتي لايتس» (أضواء المدينة) في سان فرانسيسكو، ولكن ليس هناك أمل في العثور على أندلس الصقر القريشي: «أعد خريطة الأندلس إلى جرابك أيها الحاوي وافهم الدرس. اسمي عليا ولا شأن لي بالأغنية». يشير الشاعر في أسفل الصفحة إلى أغنية «ع هدير البوسطة» لفيروز، وسحر الفتاة والرسائل. لكن «من يصدق رسائل» ياسين عدنان في «دفتر العابر»؟ فهي كمجموعته القصصية «من يصدق الرسائل؟» (2002) تخلق الالتباس، ونعثر في داخلها على جنتلمان ديوانه «مانيكان» (2000)، وزير النساء الطيب والماكر كما في قصص «تفاح الظل» (2006).
يعمد ياسين عدنان إلى استعمال الإحالات في العديد من مواضع الديوان. يفتح أفقاً جديداً للقارئ. يوضح التقاطعات مع أماكن وسير ونصوص أخرى. يقدم مشاعره تارة، وتوضيحات عن الفضاءات تارة أخرى، وكأنه يقحم القارئ في هذا الجانب التوثيقي لأدب الرحلات النابع من تجربة شخصية. كأنّ النص يقول إنّه كتب في الحياة قبل الشروع في تحريره على الأوراق. وبهذا يحقق المعادلة الصعبة في المزج بين القصيدة والحياة.
هناك أيضاً حوارية مع الشعراء. تصير الأماكن مبرراً لاستدعاء أسماء الكثيرين منهم، بل محاورة نصوصهم وأغانيهم. لوديف التي مر بها سركون بولص، ولوس أنجلس حيث يسأل تشارلز بوكوفسكي «كم الساعة لطفاً؟» في إحالة إلى إحدى قصائده. أو كما مع جاك كيرواك وبوب ديلان: «تعالوا نطرق باب الفردوس/ تباعاً/ يا شعراء سان فرانسيسكو/ الوحدة ليست مكسيكية دائماً/ يا جاك كيرواك/ لكنني لست الغريب الحزين/ والأصدقاء/ لم يموتوا داخلي بعد، وأنا هنا أقرأ ديوانك في الطابق العلوي من الـcity lights/ وأطل من الكوة/ بين القصيدة والأخرى/ فالبنت في الزقاق المجاور ما زالت تغني بوب ديلان».