برلين | في معرضه «العرابة المدفونة» الذي اختُتم أخيراً في معهد الفن المعاصر «KW» في برلين، ينهل الفنان والمخرج المصري وائل شوقي (1971) من التاريخ والأدب لبناء أعماله الفنية. عرض هنا الجزء الثاني من فيلمه «كباريه الحروب الصليبية: الطريق الى القاهرة»، الى جانب فيلم «درب الأربعين»، إضافة إلى التجهيزات والأعمال الأدائية.
الفيلم الأول الذي شدّ الجمهور الألماني، يحيلُ الى الأحداث والحروب التي اتخذت من فلسطين والعراق وسوريا ولبنان ساحةً لها في السنوات الأخيرة، الى جانب ما يُسمى «الربيع العربي»، وكان بجزءيه قد عُرض في معرض «دوكومنتا الدولي 13» الذي أقيم هذا العام في مدينة كاسل الألمانية. في هذا «الكباريه»، تلعب دمى تُحركها أوتار مكشوفة للجماهير دورَ حكام المدن العربية، والقادة الصليبيين الذين تشخص عيونهم الى «الأرض المقدسة». يصوّر الجزء الأول «ملف عرض الرعب» الفترة التاريخية بين 1094 و1099. من خطبة البابا أوربان الثاني، وكتاب أمين معلوف «الحروب الصليبية كما رآها العرب»، بدأ شوقي العمل على فيلمه عام 2010، يقول: «لا أؤمن بالتاريخ، بل بتفسير الناس له. بعض المصادر تذكر أنّ خطبة البابا أُوربان الثاني استمرت عشرة أيام، وأُخرى تقول إنها استمرت أسبوعين، والمفارقة أنه تم توثيق خطبته بعد أعوام من إلقائها... في ظلّ تضارب التفاسير حول تاريخ الحروب الصليبية، اعتمدت كتاب أمين معلوف مرجعاً لفيلمي، ليس لأنه الرواية الصحيحة، بل لأنه رواية من واجهوا هذه الحروب، وتم تهميش روايتهم من قبل الغرب؛ إضافة إلى أنها نوع من النقد الذاتي لروايتنا عن هذه الحروب».
وفي الجزء الثاني «الطريق الى القاهرة» (1099ــ 1146)، استعمل شوقي دمى من السيراميك، وهي غير الدمى الخشبية التي استعملها في الجزء الأول التي تعود ملكيتها الى «متحف لوبي» الإيطالي وعمرها 200 عام. يصوّر هذا الجزء طبيعة العلاقات العائلية في الأُسر الحاكمة خلال هذه الحروب، الى جانب المعارك وعمليات الاغتيال، فرضوان صاحب حلب وأخوه دقاق صاحب دمشق، يعمل كلاهما لقتل الآخر، ويتعاونان مع الصليبيين من أجل ذلك؛ وإسماعيل ابن زمرد ملكة دمشق يقتل أخويه بعد محاولة اغتياله، وحين يقرر تسليم مدينة دمشق الى عماد الدين زنكي، تأمر أُمه بقتله؛ ولهذا تلعب دمى ذات ملامح آدمية وحيوانية أدوار هؤلاء الحكام والقادة، لتضيف الى الفيلم بُعداً سريالياً. نصّ الفيلم الذي كتبه شوقي يتخذ شكل الحوار في جزئه الأول مع الموسيقى، لكنه يخلط بين السرد والحوار والغناء في الجزء الثاني. «كانت مهمة صعبة، في تطويع نص نثري فصيح مع الموسيقى والغناء» يقول صاحب «تيليماتش السادات»، ويضيف إنّ «الطريق الى القاهرة» يستعمل «أُسلوب الغناء الشيعي «الرادود» في قصّ الأحداث، الى جانب موسيقى «الفِجيري» التي قامت بأدائها فرقة «قلالي» البحرينية، وهو نمطٌ من الموسيقى والغناء يندثر في الخليج». حالياً، يعمل شوقي على جزء ثالثٍ بعنوان «كباريه الحروب الصليبية: أسرار كربلاء» يصوّر «الفترة التي كانت فيها مصر قوة في المنطقة، والانقلاب الذي حصل في العالم العربي، حين جلب نور الدين زنكي القائد صلاح الدين الى مصر، وحوّلها الأخير من الشيعة الى السنة» كما يذكر صاحب «الأقصى بارك». «أُحب هذه العلاقة بيني وبين هذه الألف سنة. أشعر بحرية أكبر في العمل على التاريخ». أما «درب الأربعين» (2006)، فيصوّر الهجرة من حياة البداوة الى الزراعة، والانتقال من الثقافة الجافة الى الثقافة الرطبة، على خلفية صور من الصحراء والغابات والثلوج. «درب الأربعين» طريق جِمال يربط بين دارفور في السودان ومدينة أدفو جنوب مصر، ويعود تاريخه إلى أكثر من 800 سنة، وهو أقدم طريق لـ«العبيد» يربط بين أفريقيا الوسطى والعالم الغربي، وقد استعمل لتهريب المخدرات في بطون الجمال في إحدى الفترات. الفيلم هو الثاني في سلسلة «ثقافة جافة، ثقافة رطبة» حيث انطلق شوقي في فيلمه الأول «مربع الاسفلت» من رواية عبد الرحمن منيف «مدن الملح»، وصوّر أطفالاً يبنون مدرج طائرة، من دون أن تكون لديهم فكرة عنه أو عن المواد التي يبنونه منها.
لقطة تشبه الفكرة التي أسس عليها منيف نشأة السعودية، ودخول الشركات البريطانية (ثقافة رطبة)، والتقاؤها بالبدو في الصحراء (ثقافة جافة)، وكيف تفاعلت هاتان الثقافتان، حين وظّفت هذه الشركات السعوديين لبناء محطات البترول، بينما لم يكونوا يفقهون اللغة التي يخاطبهم بها أصحاب الشركات، ولا يدركون أن تغييراً كبيراً يحدث في مستقبلهم. «لديّ شغف بتحويل شكل معين من الإبداع الى شكل آخر» يقول الفنان والمخرج الإسكندراني الذي حصل على «جائزة بينالي القاهرة الدولي» عام 1995 عن عمله «النوبة المتجمّدة»، وشارك بفيلمه «الكهف» في «بينالي اسطنبول» عام 1994. أما «كباريه الحروب الصليبية»، فلم يعرض بعد في الوطن العربي.