بغداد | أمس، رحل الشاعر الرائد عبد الرزاق عبد الواحد (1930- 2015) في باريس، والسجال العراقيّ بلا هوادة، بين محبّ لنبوغته الشعريّة وإمكانياته في توظيف بحور الشعر، عبر نتاج طويل صدح به وأطرب متذوّقيه، وبين ناقم على تمجيده لصدّام وعدم اعتذاره عن هذا الفعل. هنا برز الرأي الباحث عن مكاشفة عقلانية مع الماضي برفض فصل الموقف الثقافي المسؤول عن مستوى الريادة الشعريّة. والراحل كان بعيداً عن مراجعة الذات والإقرار بأنّه كان إلى جانب حاكم سيظلّ العراق ضحية أخطائه التي دفع بسببها أثماناً باهظة.
لم يحاول الراحل فتح صفحة جديدة مع نفسه ومع الحاضر، إضافة إلى أنّ العقل السياسيّ العراقيّ في عراق ما بعد صدّام كان طارداً ليس فقط لمن يختلف معه سياسيّاً، بل لمن بقي في البلاد أصلاً ودافع عن التجربة الجديدة التي خيّبته مضامينها، عبر جمع من الساسة الشيعة والسنة والكرد، ممّن خرّبوا الحياة، حيث قسم منهم مشغول بتحويل ملايين الدولارات إلى الخارج، وقسم آخر وجد نفسه تائهاً أمام سؤال: كيف بسلطة ليست لي بالكامل؟ فدخلت إلينا من بوابة هذا الاستفهام جماعات أصولية وإرهابية آخرها «داعش».
كان صعباً على شاعر بليغ مثل عبد الرزاق عبد الواحد فهم ذلك كلّه، يوم وظّف شعره من أجل شخص رآه مثالاً لفروسية البطل القوميّ. لنا أن نذكر من سيرته فوزه بوسام «بوشكين» العام 1976 و«لوح جامعة كامبريدج» 1979 وميدالية القصيدة الذهبيّة في «مهرجان ستروكا الشعري» في يوغسلافيا 1986. ويجدر بنا إزاء مطالبات سابقة للشاعر بأن يدفن في أرض العراق، أن يدعم الوسط الثقافيّ هذا المطلب بدعوة الحكومة العراقيّة لإتمام الإجراءات، من باب التسامح الغائب في راهننا الحالي. نتبنّى ذلك ونحن نتذكّر اللقب السلطوي الذي حازه: «شاعر القادسية»، وترزح تحت هذا التوصيف آلاف الجماجم.

وفاته تؤكّد مجدّداً حقيقة انقسام المجتمع العراقيّ

لكنّ وفاة الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، تؤكّد مجدّداً حقيقة انقسام المجتمع العراقيّ على نفسه، نخباً وساسة وأبناء وطن ملتهب يتوزّعون بين الداخل والخارج.
بعد أيّام على وفاة زعيم سياسيّ عراقيّ، تحوّلت مناسبة رحيله إلى شتم وتجريح لحق بعائلته وانتمائه الطائفي، في حالة تشير بوضوح إلى مستوى الأمراض الاجتماعيّة التي يكشفها لنا الفايسبوك متفضّلاً. نعم يصح أن نشخّص أخطاء هذا الزعيم، ومثالنا هنا أحمد الجلبي، وأن نرتقي بطرح تقييمنا المتباين لإسهامه في التراجع الذي أصاب البلاد بعد نيسان 2003 أو قراءة سيرته الطويلة وشخصيته التي لا بأس بأن نختلف في رؤيتنا لثقلها السياسيّ وقيمتها الارستقراطيّة في محيط تتّسع فيه الرثاثة، لكنّ شتم الميت ينمّ عن انحطاط أخلاقيّ مؤسف تتّصف به مجاميع من شعب الحضارات!
اليوم يتكرّر المشهد نفسه: ممجّدون قبالة شتّامين، في مباراة مفتوحة اسمها الآني عبد الرزاق عبدالواحد، ستنتهي فورتها ربّما بعد 48 ساعة، بمجيء خبر جديد عن وفاة أخرى أو تقليص حكومي لرواتب، تنسينا مباشرة دفاعنا المستميت عن الراحل أو نسفنا لمحطّات حياته، وهو الأب والزوج والحبيب لأناس يطالعون هذا العرض المستمرّ من الحداثة الهمجيّة في طبعتها الفايسبوكية. محزن ما نمرّ به، ومؤسف ما نحن فيه. فعل الكراهية الظاهر بيننا يعادل أثره تفجير عشر سيّارات ملغمة وانتحاريّين بين الأبرياء.
ارحمونا من هذه الكراهية التي سوّدت أيّامنا ووجوهنا.