حين قررت الأكاديمية الفرنسية الأسبوع الماضي، منح جائزتها مناصفة بين التونسي هادي قدور (1945) والجزائري بوعلام صنصال، أوردت جريدة «لونوفيل أبسرفاتور» أنّ رواية صنصال (2084: نهاية العالم ـ غاليمار) «فاشلة نوعاً ما... بينما يحمل قدور الرواية التاريخية إلى حد نادر من الكمال».
هذا البون الشاسع في التعامل النقدي مع الروايتين ـ رغم حصولهما على الجائزة نفسها ـ يفسر إلى حد ما سبب اختيار أكاديمية «غونكور» رواية «المهيمنون» (غاليمار) لهادي قدور في لائحتها القصيرة.

تمر أحداث الرواية في بلدة متخيلة في القرن العشرين، ربما تنتمي بملامحها إلى المغرب، حيث عاش الشاعر والروائي والمترجم أكثر من عقد وتعلّم العربية. تحكي عن التاريخ الاستعماري لفرنسا في العقد الثاني من القرن العشرين، وتقف في صف الملاحم الفردية التي عاشها العالم في زمن طغت عليه الحروب والتوسع، وتفوق الرجل الأبيض في المستعمرات التي كان يختار لها النمط الاجتماعي الذي يريد، ويدفع بها إلى تبني أنظمة اجتماعية تضمن استمراره في السيطرة. هكذا يصير تصوير فيلم هوليوودي في بلدة «نحبس» التي تجمع شخصيات، عربية وغربية، الخيط الناظم لهذه الرواية/ الجدارية التي تتبع تاريخ القرن العشرين. هذا الفضاء الجغرافي الواقع على البحر حيث يفصل وادٍ البلدة إلى نصفين، تعيش جماعتان بشريتان. السكان الأصليون الذين عاشوا إلى جانب البحر، حيث الأسواق والمساجد و»الحي العربي»، كما كان يسميه الفرنسيون، وفي الجانب الآخر من المدينة «الحي الأوروبي». حيان/ مدينتان، يفصل بينهما جدار وهمي عازل.
وبين الحروب والمجازر التي عاشتها بداية القرن العشرين مع حرب عالمية أولى، وإرهاصات حرب مدمرة، يعتقد «المهيمنون» الغربيون في المدينة أنّهم متفوقون أخلاقياً على «السكان الأصليين». إنه الخطاب الاستعماري في صورته الأكثر غباوة حين يردده المعمرون بيقين المؤمن، ويجعلونه ممارسة يومية، يواجهون بها الساكنة المحلية رغم تحلل الإمبراطورية. يأتي فريق الفيلم الأميركي إلى البلدة ليزعزع يقين المعمرين والمستعمرين على السواء بملابس النساء القصيرة، وارتيادهن المقاهي. هذه الحرية التي ستعصف بالنظام الاجتماعي للبلدة، تجعل الجميع يطرح التساؤلات حول موقعه الاجتماعي والوجودي. تجد النساء في رواية «المهيمنون» مكانة خاصة: هناك رانيا، أرملة الوزير، المتحررة والمناهضة للاستعمار التي لا يمكنها أن تجاهر بمواقفها في مجتمع عربي، وهناك زوجة المخرج الأميركي الممثلة كاترين، التي تقع في غرام العربي الذي يعمل في طاقم الفيلم، وماتيلد اليهودية النمساوية، التي تجد طعم القَبُول في المجتمع المحلي بعيداً عن معاداة السامية الأوروبية، وغابرييل الصحافية المؤثرة في باريس وصديقة رانيا التي تأتي إلى البلدة، من أجل كتابة مقال، هي التي يهاب مقالاتها الجميع في باريس. وعلى النقيض من النساء اللواتي يعشن الهيمنة الذكورية في المرحلة، ويحاولن نحت تحرّرهن على هوامش هذه الهيمنة، هناك رجال يسيرون بلا بوصلة حيث تصير الهيمنة الاستعمارية/ الذكورية، ضدهم لا لصالحهم. بين غونتيي، العسكري السابق، والملاك الذي يظل الوحيد من المعمرين الذي لم يفقد عقله، ويؤمن بهذا التفوق المزعوم، إلى رؤوف، ابن القايد (رمز السلطة) الذي يشكل نموذج الشاب المثقف، والمناضل ضد الاستعمار. يمثل رؤوف جيلاً من الشباب المغاربي. رغم تحدره من البورجوازية المحلية، إلا أنه اختار النضال من أجل استقلال بلاده، والابتعاد عن النظام الذي تحالفت فيه السلطة التقليدية مع الاستعمار لبسط السيطرة. وحين يكتشف انخراطه في هذا الحراك، يرسله والده إلى أوروبا، فيقبل على مضض، مع يقين بأنه سيعرف بنية هذه الهيمنة من الداخل. إنه نموذج وعي المستعمَرين بانتمائهم إلى «الصف الخاسر» ورغبتهم في التحرر والتحرير.
يجعل قدور من شخصياته، أداةً لكتابة رواية متشابكة، أو ما يطلق عليه في النقد بـ «الرواية ـ العالم»، وهي أنظمة روائية تجعل من تشابك الأحداث التاريخية والأمكنة الفاعلة فيه، مسرحاً لأحداث روائية، تنطلق خلالها الشخصيات في رحلات، تكشف عبرها، تلاحم التاريخ وأفراده. وهذا ما يحققه هادي قدور الذي يقود شخوصه في أماكن وفضاءات عبر القطارات والمراكب، يصيرون شهوداً على تبلور التاريخ المعاصر. الشاعر الذي نشر رواية سابقة هي الأخرى تاريخية، يعتبر أنّ مئة سنة كافية لأخذ المسافة مع ما وقع في بلدان المنطقة. لكن عمله هو في الآن ذاته، رسالة إلى الحاضر، والمستقبل، المفتوح على كل السيناريوهات.