القاهرة | قبل أسبوعين من وفاته، دعت الشاعرة الإماراتية المقيمة في مصر ميسون صقر مجموعة من الشعراء والنقاد لتكريم حلمي سالم. في ختام الحفلة التي قرأ فيها مقاطع من ديوانه المخطوط «حديقة الحيوان» ومن دوواينه القديمة، انتبه سالم لفكرة أن جميع الحاضرين هم أصغر منه سناً. رأى صاحب «الأبيض المتوسط» أن هذه الملاحظة لا تخلو من دلالة؛ إذ أنه الشاعر الوحيد الذي حظي بمباركة وتكريم الأجيال اللاحقة، التي رأته دائماً في صورة الشاعر المتمرد على أبناء جيله. أول من أمس، رحل «المتمرد»، وتناقل الشعراء والمثقفون المصريون خبر موته، متوقفين عند ابتسامته التي كانت هديةَ جميع من عرف سالم.
تلك الابتسامة رافقته حتى في أصعب اللحظات. قبل موته بأيام، وفي أمسية له في «حزب التجمع» ألقى فيها قصائد ديوانه المخطوط الآخر «معجزة التنفس»، قال إن أطباء المستشفى الذي كان يُعالج فيه من سرطان بالرئة وفشل كلوي حاد رفضوا السماح له بالخروج لأن حالته خطرة، غير أنه أصرّ على عدم سماع نصيحتهم، قائلاً إن «الشعر يشفي أفضل من ألف جلسة كيماوي»، ومشيراً إلى أنه سيعتبر نفسه لصاً وأنانياً لو مات على سريره الوثير في المستشفى، لأن «غيري مات مسحولاً في ميادين مصر».
يروي «معجزة التنفس» تجربة الشاعر مع المرض الذي يصفه بـ«الامتحان الملوّن» («ادخل امتحانك الملوّن كي تخرج أخاً للياسمين»)، ويوجز فيه تفاصيل حياته اليومية بأسلوب الشعري الذي يحوّل فيه اللحظات المعاشة إلى مادة شعرية يمكن تأملها أو السخرية منها.
بدأ صاحب «حبيبتي مزروعة في دماء الأرض» تجربته الشعرية بمعركة كبيرة، وأنهاها بمعركة أكبر. المعركة الأولى كانت مع الشاعر الراحل أمل دنقل، حيث كتب سالم مقالته الشهيرة «أدونيسيون ودنقليون» التي هاجم في جزء منها أمل دنقل، باعتباره «شاعر عصر محدّد». وكان جوهر الخلاف، بحسب ما توثّق الصحافية عبلة الرويني (زوجة دنقل)، ينصبّ في كون أمل يرى أن الشعر يأخذ ماهيته الأساسية من صلته بالجمهور لأن له دوراً سياسياً واجتماعياً ينبغي أن يكون ملموساً، لا أن يكون ملغزاً أو متعالياً على الجمهور. اللافت هنا، أن سالم نفسه عاد بعد عشرين عاماً من وفاة أمل دنقل إلى الاحتفاء بصاحب «لا تصالح» وإعداد مختارات من أشعاره.
لم يخجل حلمي سالم من مراجعة مقولاته حول صاحب «أوراق الغرفة 8»، ربما لأن شعر سالم نفسه لم ينجُ من تهمة التوجه إلى الجمهور، فقد كان شاعراً ملتزماً فيه سمة «الرومانطيقي الثوري»، وكان للهم الوطني مكانة في شعره. يمكن اعتبار الالتزام خطاً أساسياً في تجربة سالم، يوازي الخط الذي يمكن أن نسميه بالحداثة أو ما بعد الحداثة في تجربته، لاسيّما في «سراب التريكو» و«الثناء على الضعف». أما الخط الملتزم، فيتضح في دواوين «سيرة بيروت» و«الأبيض المتوسط» و«تحيات الحجر الكريم» (الذي تضمن قصائد عن الانتفاضة الفلسطينية)، ثم في ديوان «حمامة بنت جبيل» المكرس لتمجيد تجربة المقاومة في حرب تموز 2006. يمكن أيضاً ضمّ آخر دواوينه إلى هذا الخط، فـ «ارفع رأسك عالية» المكرس بالكامل لتجربة الثورة المصرية، هو ديوان تصحّ عليه الملاحطة التي أبداها الناقد جابر عصفور على شعر حلمي سالم بالكامل. يحكي عصفور عن تباين المستوى الابداعي في شعر سالم، حيث يهبط حيناً ويعلو أحياناً أخرى نظراً لكونه في الغالب «شعراً عفوياً» نتيجة الغزارة اللافتة في إنتاج صاحبه. لم يكن سالم يجد حرجاً أو عاراً في كتابة قصائد وطنية سياسية مباشرة في بعض الأحيان التي تقتضي ذلك إخلاصاً لما كان يسميه شعر «الضريبة العاجلة»، حتى لو كان ثمن تلك الضريبة الخروج من جنة الحداثيين، فالحداثة التي كان يؤمن بها هي حداثة التسامح، كما يشير الى ذلك صراحة عنوان أحد أبرز كتبه («الحداثة أخت التسامح»)، فهي ليست ديناً ولا شيكاً على بياض، وليست «روشيته» جامدة أبدية، كما كشف في أحد حواراته الصحافية.
المعركة الثانية التي خاضها صاحب «مدائح جلطة المخ»، كانت مع المتشددين دينياً الذين سعوا إلى تكفيره بسبب قصيدته «شرفة ليلى مراد» التي رأوا فيها «إساءة إلى الذات الإلهية». قاوم سالم الأصوليين بالشعر، ولم يتورط بكتابة بيان أو إطلاق تصريح صحفي، بل اكتفى بكتابة ديوانه «الشاعر والشيخ» الذي وضع المعركة برمتها موضع تأمل شعري. تلا الديوان كتاب توثيقي («محاكمة شرفة ليلى مراد») تضمّن كل ما نُشر عن الحادثة التي كادت أن تتسبّب في سحب «جائزة التفوق في الآداب» منه، وهي التي نالها عام 2006. في الكتاب، يتوقف الراحل أمام تجربته المريرة، محذراً من القراءات الحرفية لأي نص «لأنها تتصف بالتربص وبالبوليسية»، ومحذراً أيضاً من هيمنة التيارات الدينية على ما أسماه «دولة مدنية من حيث الشكل» فقط، حيث تحتوي هذه الدولة على محاكم تفتيش مزدوجة: سلطوية ودينية. وقد خشي حلمي في أيامه الأخيرة من زحف هذه المحاكم إلى المجال العام في مصر.
لا تختلف سيرة حلمي سالم مع لبنان عن سيرة الكثير من مجايليه من الشعراء والأدباء والسياسيين الذين أفرزتهم الحركة الطلابية المصرية في أوائل سبعينيات القرن الماضي. حين التحق بكلية الآداب في جامعة القاهرة ليدرس الصحافة، انخرط في أسرة مصر الطلابية، واندمج كلياً مع الشعارات التي كانت تندّد بتخاذل الرئيس السادات وبسياسات «اللا سلم واللا حرب». كانت القضية الفلسطينية على رأس أولويات هذا الجيل، بل في غالبية الاحيان كانت القضية الأولى. لذلك، لم يكن غريباً أن يخرج سالم للعمل في الصحافة الفلسطينيّة في بيروت. عاش في العاصمة اللبنانية التي تحتل مساحة كبيرة في وعيه الإنساني والشعري، عبر عنها في كتابه «الثقافة تحت الحصار» الذي يوثق لتجارب المثقفين المصريين والعرب الذين انخرطوا في صفوف المقاومة الفلسطينية في لبنان وعملوا معها وقاوموا الزحف الإسرائيلي على لبنان.
ويرجح الشاعر العماني سيف الرحبي في شهادة له عن حلمي سالم، أن الراحل لم يغادر بيروت إلا بعد الاجتياح الإسرائيلي لها عام 1982. هكذا، ذهب صاحب «يوجد هنا عميان» إلى عمّان في واحدة من مهامه الغراميّة المعهودة (كانت المرأة والشعر حلم خلاص جوهري في حياته). وهناك، في العاصمة الأردنية، بدل أحضان الحبيبة، تلقفته أحضان المخابرات الأردنيّة ورمته أياماً في السجن، قبل أن تقذفه لاحقاً إلى الحدود السورية. تمكن من العودة إلى القاهرة، ومنها إلى باريس حيث عمل في «دار الفكر» مع الكاتب اليساري طاهر عبد الحكيم، قبل أن يعود إلى العاصمة المصرية ليستقر هنا، ويعمل محرراً ثقافياً في صحيفة «الأهالي» ثم رئيساً لتحرير مجلة «أدب ونقد». لكن رغم هذا الترحال، لم تنقطع صلة حلمي سالم بلبنان، إذ تجلت في ديوان «سيرة بيروت» الذي ضمّ قصائدَ كتبها تحت الحصار. كما أنه تزوّج السيدة اللبنانية أمل بيضون، وهي من مدينة بنت جبيل التي كتب عنها سالم قصيدة مطوّلة تحت عنوان «حمامة على بنت جبيل» صدرت في مجموعة حملت الاسم نفسه عن «دار النهضة العربية» في بيروت. ويرى سالم أن بنت جبيل أيقونة المقاومة، لأنها مثّلت نموذجاً للمقاومة الأسطورية التي تذكر بباريس وستالينغراد تحت الحصار الألماني، وسائر المدن التي قدمت قصصاً بليغة في الصمود.
عاش حلمي سالم حياته على طريقته. حاول الجمع في شعره بين القروي والحداثي، بين الماركسية الملتزمة وشطحات الشاعر الصوفي. لم يكتب سيرته الذاتية، لكن المتأمل في شعره يجد فيه مرايا تلك السيرة التي امتزجت بكافة صور الغرام والاشتباك مع الحياة، كأنه سعى إلى أن يكتب أعماله بدم الحياة، وبلغة طفولية كانت قادرة على امتلاك العالم، بحسب بعض نقاده.