القاهرة | «لا بدّ أنّ شجرةً هوَتْ/ وأنّ عجوزاً لم يستطع الإفلات من شظية» يقول حلمي سالم. لكنّ الرجل لم يكن عجوزاً أبداً. شعوران متناقضان رافقا خبر موته، أو بالأحرى سؤالان: الأول يندهش من عمره: «الواحدة والستين فقط»؟ والثاني يندهش من العكس: «هل كان هذا الشاب في الواحدة والستين»؟ مبعث التناقض هنا، هو سطوع اسم حلمي سالم مبكراً ولعشرات السنين، حتى بدا عمره صغيراً مقارنة برحلته الطويلة، لكن ابتسامته المرحبة وإقباله على الدنيا جعلا من ملامحه البشوشة محض سخرية من العمر الذي مر تاركاً صاحبه يضحك ويحب ويكتب. لم يكن الشاعر عجوزاً...
لكن الشجرة هوت. قابلتُه صدفة في «نقابة الصحافيين» في ذروة الأزمة التي نال فيها شرف التكفير من الشيخ يوسف البدري. حينها، تحدّث عن عمله الشعري الجديد الذي كان يفكر في تسميته بـ«الشاعر والشيخ»، وصدر في ما بعد تحت عنوان «الشاعر والشيخ» عن دار «آفاق» في القاهرة. كان سالم مستغرقاً في الضحك في ذلك اللقاء، بينما المحكمة تكفّره معلنة «إساءته إلى الذات الإلهية» في قصيدته الشهيرة «شرفة ليلى مراد» (2007). صراعات هذه القصيدة، كشفت آنذاك خطراً جديداً لم يكن المجتمع الثقافي يعرفه بعد، إذ تورط في الهجوم على سالم والتشهير به كتّاب «ديمقراطيون» لم يكفوا يوماً عن المطالبة بحرية الرأي والتعبير والإبداع. لم يعد الصراع ثلاثياً كما إبّان قضايا نجيب محفوظ وفرج فودة ونصر حامد أبوزيد، أي لم تعد أطرافه: إسلاميون، دولة، مثقفون... بل انقسم المثقفون غير الإسلاميين إلى يمين ويسار. هاجم اليمين سالم بضراوة تحت شعارات «البذاءة» و«إساءة استخدام حرية التعبير» فضلاً _ كالعادة _ عن الطعن في شعريته، في حين دافع اليسار عنه وعن آخر رجاله في «المجلس الأعلى للثقافة» الذي منح حلمي سالم «جائزة التفوق في الآداب» التي أشعلت جنون الإسلاميين. بعد سنوات على تلك الأزمة، انحاز اليمين الثقافي نفسه إلى مرشح «الإخوان المسلمين» محمد مرسي في جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة الأخيرة، وقبْلها انحاز إلى إسلامي آخر هو عبد المنعم أبو الفتوح في الجولة الأولى. أما حلمي سالم، فلم ينحن للريح التي هبّت على قصيدته وعلى جائزته، مواصلاً خوض المعركة القضائية التي لم تحسم نهائياً حتى رحيله. بعدما وثّق تجربته مع التكفير شعرياً في ديوان «الشاعر والشيخ»، وثقها أيضاً نثرياً في كتابه المفضّل «محاكمة ليلى مراد». ربما فعل ذلك ليستخلص الشعراء العبر. «فليتحسس كل منا رأسه، وليفحص واحدنا نفسه» يقول في قصيدته «عيد ميلاد سيدة النبع» التي نُشرت قبل الأزمة بسنوات عدة. لكنه ربما فحص كتابته ولم يفحص نفسه جيداً، حتى هاجمه المرض بضراوة الموت، بينما يسنّ المتطرفون أسنانهم لالتهام ليلى مراد.