تتجول في معرض «قراءة» للفلسطيني خليل رباح (1961)، فتجد صوراً موزعة في غرفتين، وبطاقات بريدية في الغرفة الثالثة. تقترب من الأعمال، فتكتشف أن الصور ليست إلا لوحات زيتية بمقاسات كبيرة (2 ×3 م). إنها «قراءة» في تاريخ الفن لجهة المضمون وأسلوب العرض، يحوّلها رباح إلى عمل فني بحد ذاته، تتوالى فيه طبقات القراءات اللامتناهية التي يطرحها في معرضه الذي يحتضنه «مركز بيروت للفن».
قبل معرض «قراءة»، استضاف BAC معرضاً للألماني غيرهارد ريختر بحضوره، قُدمت فيه بعض صور فوتوغرافية عن اللوحات الأكثر شهرة له مثل «باتي» و«العم رودي»، لأنه كان يستحيل استقدام اللوحات الأصلية، ما أحدث خيبة لدى زائري المعرض الذين رغبوا في الاقتراب من «باتي» الزيتية ومعاينة تفاصيلها.
في القسم (الغرفة) الأول من «قراءة» الذي يحمل عنوان «أعمال مزدوجة»، ثمة ثلاث لوحات زيتية مع نسخة زيتية مطابقة لكل منها. رُسمت هذه اللوحات بأسلوب الواقعية الفوتوغرافية عن صور التقطها رباح من معرضه السابق في «بينالي الشارقة». إذاً بعكس ما جرى في معرض ريختر، نحن هنا أمام لوحات زيتية أُنجزت عن صور فوتوغرافية. ضمن اللوحات/ الصور المعروضة في «مركز بيروت للفن»، سنرى زائري «بينالي الشارقة» الذين يشاهدون أعمال خليل رباح في المعرض السابق. أما ما يشاهده زوار «بينالي الشارقة»، فهو لوحات زيتية عن صور فوتوغرافية لمعارض فنية أقيمت في فلسطين في السابق. هكذا، سنجد أنفسنا في المعرض البيروتي ننظر إلى لوحة رُسم فيها مشاهدو معرض، ينظرون هم بدورهم إلى لوحة رُسم فيها مشاهدو معرض في زمان ومكان آخرين! نفق بصري لا ينتهي، يدخلنا فيه رباح الذي يتلاعب بعلاقة الزمن والمساحة في العمل الفني... سيصبح زائر المعرض جزءاً من العمل بمجرد أن يلحظ أنه يرى مشاهداً آخر. هكذا، ستمتد مساحة اللوحة الافتراضية لتشمل فضاء العرض الحالي، بينما الزمن يمتدّ منذ المعارض القديمة في فلسطين، مروراً بزمن معارض الفنون المعاصرة في أرض الثقافة المستحدثة/ النفطية، وصولاً إلى الزمن الحالي، لحظة التقاء المشاهد باللوحة: الزمن الأول يتجدد في كل مرة يتذكره فيها مشاهده، لأنه زمن مضى ومعرّض للزوال من التاريخ لكونه وقع في أرض حيث يجري تحريف تاريخها كل يوم. أما الزمن الثاني، فيحوي احتمال اختفائه بالسرعة ذاتها التي ولد فيها. بذلك، يصبح الزمن الثالث (الحالي) لحظة التقاء المشاهد بالعمل الفني، الزمن الوحيد الملموس الذي يضمن تخليد الزمانين الماضييين ضمن لوحة زيتية.
ثنائية الصور الفوتوغرافية عن لوحات زيتية لريختر، ولوحات زيتية عن صور فوتوغرافية لرباح، تفتح المجال على أسئلة كثيرة حول موقع الرسم في الفن المعاصر: هل تحيي لوحات رباح الزيتية الرسم، أم تطرح مسألة موته؟
يبدو القسمان الآخران مختلفين عن «أعمال مزدوجة»، لكن من دون أن يفصلا عنه. يمكن القول إن الأقسام الثلاثة تطوّرٌ للمشاريع التي يعمل عليها خليل رباح منذ عقد. في مدخل القسم الثاني، ثمة قطعة غرانيت ضخمة، حُفر عليها يدوياً «المتحف الفلسطيني لتاريخ الطبيعة والإنسان» باللغة الإنكليزية. المتحف (الافتراضي) الذي يقول رباح إنّه أسّسه عام 1961 (أي عام ولادة الفنان) وقدم أعمالاً تحت رايته في معارض سابقة، يخصص له قسماً خاصاً في «مركز بيروت للفن». لوح الغرانيت الذي حُفر عليه اسم المتحف، بقي مسنداً إلى الأرض أمام مساحة فُرّغت له في الحائط لكن من دون أن يوضع فيها. من هذه الثغرة في الحائط، يمكن النظر إلى داخل فضاء «المتحف»، وإلى اللوح (يرمز إلى فلسطين على أي حال) الذي اختار رباح أن يبقيه في حيرة، إذ لا يأخذ مكانه الطبيعي في الحائط، بل يبدو قابلاً للنقل إلى أمكنة أخرى يمكن أن يمنحها صفته. وهذا ما يحوّل وظيفة اللوح من لوجستية تعريفية إلى عمل فني يبطن موقفاً سياسياً. داخل هذا المتحف أيضاً، ثمة «نشرة المتحف لصيف 2011» التي تستعرض التاريخ المؤسساتي للمتحف ونشاطاته. تنطوي النشرة على 24 صفحة ضخمة، وضعت كل واحدة منها على جارور معدني ضخم. هكذا، يستطيع زائر المعرض أن يسحب كل صفحة للاطلاع على تفاصيلها، والاستمتاع بأكثر من مجرد القراءة، إذ إن تلك الصفحات أيضاً مرسومة بالألوان الزيتية بنصوصها وصورها. أما القسم الثالث من المعرض، فيأخذنا في «مشوار» إلى 50 قرية فلسطينية عبر مئات البطاقات البريدية، مع العلم بأنّه يمكن الزائر اقتناء ما يشاء من هذه البطاقات التي يحاول من خلالها رباح تثبيت هوية القرى الفلسطينية، وتقديم قراءة تاريخية وجغرافية لفلسطين. تبدو البطاقات أشبه بجزر في الفضاء الأبيض، وهو ما يمكن إسقاطه على واقع القرى الفلسطينية اليوم. العمل الذي يقدمه رباح في هذا القسم يطرح علاقة شائكة بين المشاهد والبطاقة البريدية، خصوصاً إذا كان الزائر لبنانياً لا يستطيع أن يزور تلك القرى إلا مجازياً عبر هذه البطاقات. هكذا إذاً، انطلاقاً من فلسطين، يطرح خليل رباح أسئلة ملحّة على عالم الفن المعاصر.


«قراءة» لخليل رباح: حتى 8 آب (أغسطس) ـــ «مركز بيروت للفن» BAC (جسر الواطي، بيروت) ـــ للاستعلام: 01/397018



بريشة... آخرين

في معرضه «قراءة»، يقدّم خليل رباح أيضاً لوحات أوكل رسمها إلى تشكيليين آخرين، من دون أن يفصح عن الأمر، تاركاً بذلك خيطاً رفيعاً يدلّنا إلى ذلك السرّ المعلن. هذا ما يخلق بعداً مختلفاً في علاقة التشكيلي بعمله الفني، مثلما فعل سابقاً الفنان البصري أكرم زعتري والمصوّر الفوتوغرافي هاشم المدني.