خمس وثلاثين دقيقة، هي الوقت الذي وقف فيه فريدرك وليم دو كلرك وراء المنصة، داخل قاعة برلمان جنوب أفريقيا. طوى آخر رئيس أبيض للبلاد، ثلاثة قرون من الخزي، بإعلانه إلغاء التمييز العنصري، جارفاً في طريقه صورة جنوب أفريقيا القديمة، ليؤسس دولة جديدة بدستور، وعلم ونشيد وطني أخرى. الخطبة الحاسمة التي تحمل تاريخ 2 شباط (فبراير) 1992، قلبت الصورة رأساً على عقب.
لم تعد جنوب أفريقيا هبة الرب للبيض الذين حكموا البلاد بمسدس في يد، والكتاب المقدّس في اليد الأخرى.
في كتابه «غداً ستولد دولة جديدة» (دار قدمس ــ دمشق، ترجمة ابتسام الخضرا)، يكشف الكاتب والصحافي الجنوب أفريقي ألستر سباركس قصة التسوية التفاوضية في جنوب أفريقيا من الداخل التي انتهت بإطلاق سراح نلسون مانديلا، أقدم سجين سياسي في البلاد بعد 27 سنة قضاها وراء القضبان. مزيج من الصدمة والابتهاج وعدم التصديق، فالحدث لا يقل تأثيراً، عن برسترويكا ميخائيل غورباتشوف، وسقوط جدار برلين، لجهة رمزيته بإنهاء آخر نظام «أبارتهايد» في العالم (باستثناء إسرائيل). هكذا واجه فريدرك وليم دو كلرك «سياسات اليأس» المتراكمة، بقوة الأمل، ليكون بين قلائل فاوضوا بحق على خروجهم من السلطة. الحكاية بدأت في ملعب للتنس في 1950، إذ نشأت صداقة غير متوقعة بين هندرك جاكبس كيتسي، وبيت دي فال... الشخصين اللذين سيؤديان لاحقاً دوراً أساسياً في المفاوضات بين السود والبيض. أُبعدت ويني مانديلا (زوجة مانديلا الأولى وطليقته) إثر تظاهرة في عام 1976 إلى مدينة براندفورت النائية. في منفاها تعرّفت، ويني إلى زوجة المحامي دي فال، في الوقت الذي أصبح فيه كيتسي وزيراً للعدل والشرطة والسجون. في عام 1985، أُصيب نلسون مانديلا بتضخم البروستات، فنُقل إلى المستشفى في مدينة الكاب لإجراء عمل جراحي، وكان على ويني أن تلتحق به. على الطائرة نفسها التي ستقلّها إلى الكاب، التقى كيتسي بويني. وبعد ساعتين هي مدة الرحلة، قرر كيتسي أن يزور مانديلا في المستشفى. خلال جولاته السريّة للمباحثات مع الحكومة، خشي مانديلا أن يفهم أعضاء «المؤتمر الوطني الأفريقي» في المنفى أنه يعقد صفقة من دون علمهم، لذلك طلب إبلاغهم بعدم حدوث أي شيء من دون موافقتهم. تحوّلت زنزانة مانديلا إلى ورشة للمباحثات، وكادت أن تنتهي الجولات التفاوضية الماراثونية باجتماع مانديلا بالرئيس بوتا، لو لم يُصب الأخير بجلطة دماغية في كانون الثاني (يناير) 1989، بمواكبة أطول انتفاضة للسود في البلاد، على رغم إعلان حالة الطوارئ والاستعمال المفرط للقوة (بلغت حصيلة القتلى نحو 4 آلاف شخص، وخمسين ألف معتقل من دون محاكمة). كان بوتا، أو «التمساح العجوز»، يرغب في إطلاق سراح مانديلا، ولكن من دون أن يبدو ضعيفاً، وقد استمر في البحث عن صيغة لإطلاق سراحه شرط التنازل عن فكرة الكفاح المسلّح. رفض مانديلا تقديم أي تعهّد حتى يتحرر شعبه من التمييز العنصري، قائلاً: «الرجال الأحرار فقط هم الذين يفاوضون ولا يستطيع السجناء عمل أي صفقة».
يتتبع ألستر سباركس يوميات مانديلا في السجن، ومحاضر الجلسات السرية بين السجين وجلاديه، والصراع بين فكرتي الحريّة والعبودية، إذ علينا «ألا ننسى أن الفرق الوحيد بين الأخدود والقبر هو عمق الحفرة». هكذا، حفلت حقبة الرئيس بوتا التي استمرت 12 عاماً بالتناقضات، فهو وصل أخيراً إلى اقتناع بضرورة الإصلاحات تحت شعار «تأقلم أو مُت»، وإن لم يغامر تماماً بإنهاء سيطرة النظام العنصري في البلاد، مكتفياً بفقاعات صابون إصلاحية أدت في نهاية المطاف إلى استقالته من منصب رئيس الحزب الوطني واحتفاظه بمنصب رئيس الدولة. خلفه دو كلرك بزعامة الحزب والدولة. في خطوة مفاجئة، توجّه الرئيس الجديد ووزراؤه إلى مقر «التمساح العجوز» صبيحة يوم 4 آب (أغسطس) 1989، وطلبوا إليه الرحيل. لم يطل سخط بوتا في ذلك الاجتماع العاصف، وأعلن أنه سيستقيل تلك الليلة، ويتوجه إلى مبنى التلفزيون ويعلن للشعب سبب استقالته. في اليوم التالي، بدأت حقبة جديدة في تاريخ البلاد بزعامة دو كلرك. وبعد تسعة أيام من خطابه الشهير، أُطلق دو كلرك سراح نلسون مانديلا (11 شباط/ فبراير 1990)، لتُنجز لاحقاً ثورة عن طريق التفاوض، نقلت البلاد إلى ديموقراطية لا عرقية في عملية سلمية، ستبقى علامة فارقة في التاريخ الحديث.