لا يشفي هاشم شفيق غليل القارئ في روايته «أشهر من شهريار» (ثقافة للنشر والتوزيع ـــ أبو ظبي). بدلاً من أن يحوّل عودته إلى العراق بعد ثلاثة عقود من المنافي إلى استعارة شخصية وثقافية، نراه يقارب هذا الامتحان بشكل موارب، مازجاً سيرته مع قصص جانبية وغير ضرورية. ما نقرأه هو أجزاء مستعادة من سيرة ذاتية أكثر من كونها رواية بالمعنى الفعلي لفن الرواية. هناك مادة سردية وحكايات وسياقات متعددة، لكنها لا ترقى إلى مناخات الرواية الحديثة وأساليبها المعقدة. يخلط الشاعر العراقي ماضيه مع تفاصيل الحاضر. يبحث عن الشخص الذي كان إياه قبل التغريبة الكبرى التي هجّرته مع آلاف المثقفين والشعراء والفنانين في الحقبة الصدّامية. يسأل عن المكتبة الصغيرة التي خلّفها وراءه. يتفقد شوارع بغدادية تسكع فيها، ومقاهي شهدت النقاشات الباكرة مع مجايليه عن الشعر والكتابة، ومكتبات اقتنى منها كتبه الأولى، وحاناتٍ رُفعت فيها أنخابٌ صاخبة. يزور قبر والدته. يتذكر طفولته في الفلوجة. يسعى مع أقربائه إلى استخراج أوراق ثبوتية تعيد اسمه كعراقي غائب إلى السجل المدني.

في غضون ذلك، يستمع إلى حكاياتٍ حدثت في غيابه، وأخرى بدأت بحضوره ولم يسمع بنهاياتها. الواقع أن الرواية مؤلفة من هذه الحكايات التي تمثل الفصول الأحد عشر فيها. في ثنايا هذه الحكايات تمرّ تفاصيل متعددة، منها ما يخص المشهد العراقي أثناء الاحتلال الأميركي، كما هي الحال في حكاية قريبٍ له في المعتقل الأميركي، وقريبٍ آخر قتلته جماعة طائفية مسلحة، وأرسلت رأسه إلى ذويه في كيس، بينما حكاياتٌ أخرى تجمع الراهن مع الذاكرة، كما في حكاية الشاعر المتصعلك علي العقيلي (ربما يقصد عقيل علي) الذي انتهت حياته بالموت على أحد الأرصفة، وحكاية صديقه الذي احتال على جوع المنفى في باريس بالانضمام إلى مجموعة دينية تكفل له الطعام والنوم. الحكايات ممزوجة بصور الأمكنة وسيرتها كجزء من الحياة العراقية التي يأسى صاحب « قصائد منزلية» على خرابها وتبدل أحوالها. يرثي مكتبات الأرصفة في شارع المتنبي، وصالات السينما في شارع الرشيد وأبي نواس. يتردد على مقهى «المعقّدين» و«حسن عجمي»، ويتذكر كافتيريا اتحاد الأدباء العراقيين. عاد الشاعر المهاجر «حاملاً همّ بلدٍ على كاهلي، كنت أحمله من بلد إلى بلد... وفي النهاية، أجيء بقدمٍ مرحة، لكي أفتش عن ورقة صغيرة تثبت أني عراقي»، بينما تصطدم الصور المحفوظة في الذاكرة بقسوة الحاضر: «تفضّل هذا هو العراق الجديد الذي وعدونا به، ثماني سنوات مرت والأمر يزداد سوءاً (..) لا تخف يقول لي صاحب المكتبة، ينبغي أن تكون عراقياً، هذه أمور عادية تحدث كل يوم».
الأسى والحسرة هما الخلاصة التي يخرج بها من المقارنة الموجعة التي لا تتطابق فيها ذاكرته مع صورة الأمكنة والناس. الشاعر الذي اعتدنا خفوت نبرته وسلاسة معجمه، لا يخصص روايته لفكرة العودة وحدها، ولكنه لا يكف عن امتداح الماضي وهجاء الواقع. كأن صاحب «صباح الخير بريطانيا» عاد إلى أمكنته لكي يفقدها إلى الأبد، كما فعل غيره من الكتاب والمثقفين الذين سبقوه إلى زيارة أمكنتهم الأولى. هكذا تُعيده الطائرة إلى منفاه في نهاية الرواية، ولكن متخففاً من عذاب الحنين هذه المرة.