كانت للصورة قيمة أكبر قبل ظهور الكاميرا الرقمية. لذلك، لم يترك اسماعيل حداد كاميراه الفورية القديمة وشجرة البلح على الرصيف المطلّ على صخرة الروشة حتى في أشدّ أيام مرضه. كان حين يأخذ صورة المارين، يبتسم كأنه هو الذي يقف أمام العدسة. يكاد يكون نصف اللبنانيين من جيل ما قبل الديجيتال يحتفظ بصورة فورية عائلية أو غرامية التقطتها عدسة حداد أمام صخرة الروشة... المعلَم الوحيد الذي ربما لم يتغيّر وسط التحوّلات التي عصفت ببيروت.
اسماعيل ابن بيروت، لم يفارقها في حربها ولا في سلمها الوهمي، ذاكرته هي ذاكرة هذه المدينة وصورتها. عندما كان صغيراً، عمل لدى محل حلويات «البحصلي» الأول في ساحة رياض الصلح قبل اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. وحين بلغ الثامنة عشرة من عمره، أحب الكاميرا، فكان في الطريق من عمله وإليه يلتقط صوراً من ساحة البرج وساحة رياض الصلح، يصرف على هوايته من جيبه، يقتني كاميراه الخاصة، ثم يقوم بتظهير الصور في استديو صغير قريب من منزله في فردان الى أن حوّل غرفة صغيرة في الشقة الى استديو خاص، حيث كان يقضي وقته مع ما التقطه بعدسته من وجوه ومشاهد ومناسبات.
لم يصوّر مشاهد العنف خلال الحرب الأهلية، فضّل أن يواصل التقاط الأشياء الجميلة، فاتجه الى البحر، اختار مكانه مقابل الصخرة ولم يبارحه، لم يلتفت الى الوراء، الى تلك المدينة التي تغيرت وتغيّر ناسها. كان شديد التعلق بالأشياء التي تذكّره بماضيه الجميل، كاميراه القديمة الكبيرة، سيارته الـ«فيات» القديمة، ومكانه الذي اختاره لممارسة هوايته. في الفترة الأخيرة، بدا تعباً، كان يتكئ على شجرة النخيل التي كبرت معه وأمّنت له الظل لسنوات طويلة. كان يجلس من دون أن يعمل كثيراً كصياد السمك الذي لا يغادر الشاطئ وإن كان يعلم أنه ليس في موسم الصيد.
كان يبتعد عن عدسات الآخرين، لم يقبل الظهور في أي فيلم أو شريط وثائقي عن بيروت أو عنه كأحد وجوهها التقليديين. اليوم، بقيت الصخرة وحيدة بعد رحيل رفيقها «عمّو اسماعيل» أخيراً عن عمر ناهز الـ82 عاماً. إنه الفراق الأول عن كاميراه التي قضى أكثر من نصف عمره ممسكاً بها في انتظار الباحثين عن لقطة تخلّد لحظة وقوفهم أمام الصخرة العملاقة.