القدس المحتلة | كنت صغيراً حين كنت أغني في المخيم الصيفي في سلوان أغنيةً تقول «يا ظريف الطول ورايح عَ لبنان.. حطّيلي وردة عَ قبر غسان»، لم أكن أعلم وقتها من هو غسان، كل ما أخبروني إياه أنّه أديب فلسطيني اغتالته إسرائيل ومعه بنت أخته من عمرنا. كحال كثيرين من أبناء جيلي، أصبح غسان قيمةً مهمة في حياتنا رغم أننا لم نقرأ له كلمة واحدة. كان رمزاً نضعه على قمصاننا الصيفية ونحمل صوره في المسيرات، نقسم به إن لزم الأمر قسماً لا رجعة عنه، والغريب أن كل هذا حصل ونحن لم نعرف عنه سوى الصورة والأغنيات.
كبرت قليلاً وقرأته، قرأت كل ما يمكن أن يكون غسان قد كتبه أو كُتب عنه، قرأت المقالات التي كان يكتبها باسمه المستعار «فارس فارس»، حتى رسائله لغادة السمان، قرأتها، مع أنني لست بذاك القارئ النهم ولكن غسان يُجبرك على قراءته. غسان علمني كيف أرى فلسطين حالماً بموضوعية لا تليق بالحلم، علمني كيف أرى كل شيء بعين الناقد المتفحص لا عين الحافظ المتلقي، علمني كيف يكون الساخر لاذعاً وكيف يكون المقاتل فيلسوفاً، وكيف تسترد الأوطان، علمني كيف يمكن أن تعيد تشكيل الإنسان ووعيه.
ذهب غسان في أكثر طريقة تليق بشخص مثله، شهيداً شاباً، وترك وراءه إرثاً ثقيلاً على شعبه وعلى اليسار الذي انتمى إليه، إرثاً لا يقدر اليسار المفتقد البوصلة أن يحمله، يسارٌ لا يفعل ما عليه إلا نادراً ولا يقود إلا من المقعد الخلفي كالأطفال، تراه يُحرّك يديه كأنه يمسك المقود وكله قناعة بأنّه هو مَن يقود بينما والده يوجّه السيارة ويرفع صوت المذياع متناسياً وجود الطفل خلفه!
قال لنا غسان «فش حدا بنام وبصحى بلاقي وطن بستناه» ونحن اليوم لا ننام قبل أن نقول «تصبحون على وطن»! قال لنا غسان «ليس المهم أن يموت أحدنا، المهم أن تستمروا»، ففهمت قيادتنا الحالية منه «المهم أن تستمروا في الحل السلمي» وفهمت الفصائل «المهم أن تثأروا» حفظاً على ماء وجه هذا الفصيل أو ذاك وحفاظاً على شعبيته، فحولت إسرائيل ثورتنا من فعل إلى ردّة فعل، تحركها كيفما أرادت وكل ما يلزمها طلعة جوية صغيرة وقائدٌ شهيد.
غسان كنفاني هو المنطقي الذي لا يخاف أن يقول إنّ الوطن هو أن لا يحدث كل هذا. هو صوت العقل الذي غاب عنّا، هو الشخص الذي لو عاد إلينا، للعنه مَن يرفعون صوره، ولرجمه من يقسمون به، لقد حولوه من مدرسة ونهج وطريقة الى أحلام مستغانمي لا أكثر لكن بصبغة وطنية، وباتوا يتناقلون أقواله المأثورة ويحفظونها من دون فهم لسياقها، وانتقل من مكانه كعقل لهذا الشعب، ليصبح Status هذا الشعب.
غسان كنفاني... يا معلمي الأول، ابقَ حيث أنت ولا تستمع لمن يوهمونك بأنهم يتمنونك بينهم، فأنت عبءٌ على المرحلة وعلى من يرفعون صورك ويقتبسون مأثوراتك، ابقَ حيث أنت وانتظر أن نزرع لك في عكا جنتك الأبدية، ابقَ حيث أنت، فكل ما تبقى لنا من بعدك في أرض البرتقال الحزين مفتاحٌ حديث لمؤسسه في رام الله أو سجن في غزة وكلاهما لا يشبه الفأس. ابقَ حيث أنت، فقيادتنا أخذت قرضاً من البنك الدولي اشترت به عازلاً للصوت لجدران الخزان، ابق حيث أنت، فلقد حذفوك من المنهج ولم يبقوا منك سوى... ليس المهم أن يموت أحدنا... نقطة.