في العدد الـ127 من مجلة «المجلة» المصرية (صيف 1967) شارك غسان كنفاني في ندوة حول «الموقف الحاضر في القصة العربية» مع حليم بركات، وزكريا تامر، ويحيى حقّي وصبري حافظ. وفيها قدّم ما يمكن اعتباره «مقاربة فلسطينية» (معيارية؟) لمعنى أن يكون الإنسان الفلسطيني كاتباً، كان أشدّ ما لفتني فيها، في مستهل إجازة متجددة معه بالتزامن مع ذكرى استشهاده الأربعين، الفقرة التالية:«الفلسطيني ككاتب يستطيع أن يستكشف الصفة الخاصة جداً للقضية الفلسطينية أكثر من أي شخص آخر، خصوصاً إذا كان من هذا الجيل الشاب الذي خرج من فلسطين في حوالي العاشرة من عمره.

فهو الآن (سنة 1967) في حوالي الثلاثين، وهو إذن الجيل الذي ينتج. معنى ذلك أنه في جذوره فلسطيني حقيقي، وأنه عاش فعلاً على الأرض المغتصبة، ثم أعقبت ذلك سنوات خمس عاشها في التشرد والمعاناة الحقيقية... وفي هذا الوقت أيضاً، تابع دراسته واحتكّ عربياً واطلع أدبياً إلى أن بلغ العشرين. ثم بين العشرين والثلاثين، عاش تطوّرات القضية من زاوية أخرى واحتكّ بالثقافة الأجنبية ولم يقطع جذوره بالقضية الفلسطينية، بمعنى أنه ما زال يعمل فيها سياسياً واجتماعياً، أو يزور بعض الأقارب في المخيمات، ويدرسهم ويسمع حكاياتهم... أصدقاؤه فلسطينيون، محيطه فلسطيني، وبالتالي هناك نبض فلسطيني في كلامه أخشى ألا يستطيع كاتب غير فلسطيني أن يصنعه في ما يكتبه عن فلسطين». ما لفتني، كقارئ لهذه الفقرة، أنه لدى تأملها الآن نعثر في ثناياها على جملة رؤى تشكل لحمة المشروع الأدبي الذي شيّده غسان كنفاني لنفسه، ولنا جميعاً. وحسبنا هنا أن نتوقف من جملة هذه الرؤى عند اثنتين تبدوان جوهريتين على مستوى تأصيل الكتابة الأدبية عن فلسطين:
1- تتمثل الرؤية الأولى في الكيفية التي ينبغي للأديب، وبالذات الفلسطيني، أن يتناول من خلالها، أولاً ودائماً، سؤال فلسطين من ناحية المعنى. وفي هذه الرؤية ما يعيدنا إلى الإشارة التي كان ظهور نصّ كنفاني واشياً بها. من المعروف أن بروزه كأديب توازى مع نشر «رجال في الشمس» (1963) في مناخ ثقافي وفكري عربي عام لم تشكّل فيه القضية الفلسطينية أكثر من «خلفية غائرة» لهموم النخب الثقافية العربية. ونجم عن ذلك استغراق نصوص هذه النخب في المفاهيم الإطلاقية التي تجرّد الصراع مع إسرائيل من محتواه التاريخي والقومي وتختزله في تعابير رثائية من طراز «نكبة فلسطين» و«مأساة فلسطين». أما الأدب، الذي كتب بوحي من هذا الاستغراق، فقد تمظهر في حقل من التجريد. في مناخ كهذا، كان كنفاني رائد سيرورة تنزيل الفلسطيني من التحليق في التجريد إلى أرض التحديد.
2- لئن اخترت أن تكون هذه الرؤية مبتدأ الكلام عن كنفاني، فلكون خبر الكلام عنه كامناًَ في الرؤية الثانية التي تطل من عبارته التالية: «هناك نبض فلسطيني في كلامه [أي في كلام الكاتب الفلسطيني] أخشى ألّا يستطيع كاتب غير فلسطيني أن يصنعه في ما يكتبه عن فلسطين».
في واقع الحال، فإن كنفاني اشتغل كثيراً على الشكل الفني للكتابة. والتركيز عليه كداعية سياسية، كما لا ينفك البعض يفعل، يتساوى مع محاولات لم تتوقف لاغتيال فنيّة مشروعه التي كانت آصرة عضوية في الجسد المتكامل لإبداعه. ولا أدعيّ أني بذلك أكشف جديداً. فقد سبق أن اعتبر النقد الفلسطيني والعربي غسان كنفاني، إلى جوار إميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، الآباء المؤسسين للرواية الفلسطينية، ليس بمعنى الأسبقية الزمنية، بل بالمعنى الأعمق للتأسيس، فهم مؤسسو «فنية الرواية» ذاتها، روحياً، عندنا، حسبما يقول الناقد والشاعر الراحل حسين البرغوثي.
لمزيد من استكمال الدائرة حول رؤى كنفاني، كما تشفّ عنها الفقرة أعلاه، تنبغي الإشارة إلى أن ما يقوله بشأن استطاعة الفلسطيني، ككاتب، أن يستكشف الصفة الخاصة جداً للقضية الفلسطينية يضعنا أمام جوهر الكتابة باعتبارها منهجاً تركيبياً له خصوصية في إدراك الحياة. وعندما أؤكد على الكتابة فعن وعي كامل بأنّها جميع ما يكتبه الأديب. بعد شهور من صدور «رجال في الشمس»، كتب كنفاني إلى أحد الأصدقاء يقول في توضيح منهجه التركيبي في الكتابة: «الآن تشتدّ عليّ نصائح الأصدقاء بأن لا أولي الصحافة كل هذا الاهتمام. فهي في النهاية ـ كما يقولون ــ ستقضي على إمكاناتي الفنية بكتابة القصة. أنا بصراحة لا أفهم هذا المنطق. فهو نفس منطق النصائح التي كنت أسمعها وأنا في المدرسة الثانوية: اترك السياسة واهتم بدروسك، والنصائح التي سمعتها بعد ذلك في الكويت: اترك الكتابة واهتم بصحتك! هل كان عندي حقاً خيار بين المدرسة والسياسة، الكتابة والصحة، حتى يكون الآن عندي خيار بين الصحافة والقصة. أنا أريد أن أقول شيئاً. وأحياناً أستطيع قوله بكتابة الخبر الرئيسي في صحيفة «الغد»، وأحياناً بصياغة الافتتاحية... بعض المرات لا أستطيع أن أقول الذي أريد إلا بقصة. الاختيار الذي يتحدثون عنه (...) يذكرني بأحد الزملاء من معلمي اللغة العربية، الذي يطلب مع بداية كل عام من تلامذته كتابة موضوعه الإنشائي المفضل: «أيهما تفضل، حياة القرية أم حياة المدينة؟»، ومعظم التلامذة يعيشون في المخيمات!».

* كاتب وناقد فلسطيني (مداخلات شلحت وشقير والاسطة قدمت في ندوة نظّمتها مجلّة «الهدف» مع وزارة الثقافة الفلسطينية في «مركز خليل السكاكيني» في رام الله في الذكرى الأربعين لاستشهاد غسان كنفاني)