دمشق | تموز حار آخر، نفتقد فيه غسان كنفاني، كأنّه غاب للتو. وسوف نستعيد صرخة أبي الخيزران في روايته «رجال في الشمس» مرّة تلو المرّة «لماذا لم تدقوا جدران الخزّان؟»، ذلك أن الموت الفلسطيني لم يتوقف عند حدّ. كأن مائدة العشاء الفلسطيني الأخير تفقد حوارييها بالموت المتسلسل، وإذا بالقائمة تختطف أبرز وجوه الأرض الكنعانية القديمة، من إميل حبيبي، وجبرا إبراهيم جبرا، وإدوارد سعيد، إلى محمود درويش. ولكن هل أدرك غسان كنفاني أنه سيرحل باكراً، وإلا فما معنى أن يعترف ذات مرّة لأحد أصدقائه «ربما كان الاسم الواحد كالعمر الواحد، لا يكفي لإخراج كل ما يموج في الداخل؟».
الغزارة في الكتابة إذاً، محاولة محمومة لقول ما يختزنه من أفكار وحكايات قد لا يتيح له العمر أن يقولها، سواء باسمه الصريح أم بأسماء مستعارة، فهو على أي حال «نقل الحبر إلى مرتبة الشرف وأعطاه قيمة الدم» حسب ما قال محمود درويش عنه. هكذا عمل مثل ورشة في حقول إبداعية متعددة، بين حقنة أنسولين وأخرى، منذ أن ظهرت قصته الأولى «القميص المسروق» (1966). لكن مهلاً، ألم يجرّب غسان كنفاني الكتابة قبلاً؟ يكشف كتاب «ما لم ينشر من الكتابات الأولى لغسان كنفاني» (منشورات «القدس عاصمة الثقافة العربية» ـــ 2009) عن المحاولات الأولى لصاحب «ما تبقى لكم» التي أهملها في «الأعمال الكاملة»، وهي تسع قصص كتبها ما بين عامي 1951و1952 وكان ينوي نشرها في مجموعة، لكنها لم تبصر النور، كما سنجد حواريات وتمثيليات إذاعية، وأشعاراً غير مكتملة، بالإضافة إلى قصة بعنوان «البومة في غرفة بعيدة» منشورة في صحيفة «الرأي» الكويتية في منتصف الخمسينيات... فهل أهدى غسان «بومته» إلى الروائية السورية غادة السمان التي اتخذتها لاحقاً شعاراً لكتبها؟
في الوثائقي الذي أنجزته محطة «الجزيرة» عن غسان كنفاني، يروي المستشار السابق لياسر عرفات المناضل بسام أبو شريف لحظة موته، وتطاير جسده إلى أشلاء، حين صرخت زوجته إثر انفجار سيارته «أرجوك، أريد خاتم الزواج». ويضيف «بحثت بين أشلاء الشهيد، وأنقاض السيارة عن الخاتم، فلم أجده في السيارة. نظرت إلى الأعلى. كانت يده معلّقة فوق شجرة، وكان الخاتم مثبّتاً في إصبعه المقطوعة، سحبته من تلك الإصبع وسلّمته لزوجته». هل كان على غسان أيضاً، أن يدقّ جدار الخزّان قبل حتفه، أم أن ضرورات التراجيديا الفلسطينية تتطلب كل هذه الخسارات المتلاحقة لاستعادة الخريطة المنهوبة؟