كُتب الكثير عن غسان كنفاني (١٩٣٦ ــ ١٩٧٢) الذي رحل دون الأربعين في بيروت عشيّة الحرب الأهليّة، يوم كانت المدينة مختبراً للحداثة العربيّة، وبؤرة الصحوة القوميّة والاجتماعيّة والإنسانيّة. وهذه الأيّام إذ يحيي الشعب الفلسطيني، ومعه العالم العربي، ذكرى استشهاده الأربعين (٨ تمّوز/ يونيو)، هل بقي شيء جديد يمكن قوله عن ذلك المبدع الرائي؟ نزور تلك الأيقونة فإذا بها راهنة أكثر من أي وقت مضى، من خلال الإشكاليّات التي طرحها صاحب «ما تبقّى لكم»، ومن خلال خياراته الفكريّة والسياسيّة. الفتى العكاوي الذي شهد النكبة وعاش النزوح، تنقّل بين المنافي، وعمل في مهن صغيرة، قبل أن يسلك المسار الفريد الذي نعرف. دخل متنكّراً إلى بيروت التي أسّس فيها عائلته، وكانت محطّته الأخيرة على الطريق الشائك والطويل إلى فلسطين.
أعماله الأدبيّة، ومساهماته الفنيّة والتشكيليّة ما زالت علامة فارقة في ثقافتنا الحيّة. لكنّ الأهمّ هو السؤال الوجودي والكياني الذي طرحه في مواجهة آلة ضخمة أنتجت ذلك الظلم التاريخي الاستثنائي الذي نختصره بـ«المأساة الفلسطينيّة». قدّم بعض عناصر الإجابة في رواياته وقصصه، في نثره ونقده وكتاباته الصحافيّة. وقدّم عناصر أخرى في سلوكه النضالي الذي نتمسّك به اليوم، بعد سلسلة الانهيارات الطويلة التي كانت فاتحتها ربّما عمليّة اغتياله على يد «الموساد» تحت منزله في الحازميّة، قبل أربعين عاماً.
في زمن استقالة بعض النخب، وتنازلها، واستلابها، واستسلامها لشتّى الإغراءات والفخاخ، ما زالت الطريق إلى فلسطين كما رسمها هذا المثقّف العضوي، هي الأقصر والأضمن و… الوحيدة. لم يغفل «الآخر» القاتل، بل حاول أن يفهمه بكل أبعاده، درس الأدب الصهيوني، وغاص في أدبه على المفارقات الإنسانيّة التي خلّفتها النكبة… لكن شرط استعادة الحقوق المسلوبة، وإيقاف المجزرة الكبرى التي ازدادت هولاً مع السنوات، وتعددت أشكالها وأسماؤها وصولاً إلى بزنس «الفتنة المذهبيّة»، هذا الشرط لم يتغيّر منذ بشّرنا غسان كنفاني بالكفاح المسلّح… التاريخ القريب أثبت صحّة قناعاته. إسرائيل لا يمكن أن تفهم سوى لغة المقاومة، بالإذن من المهرّج الملتحي وتجّار الفتنة وأنبياء الليبراليّة ورسل الانفتاح ودعاة أنسنة القاتل. والطريقة الوحيدة للإفلات من الجحيم العربي الراهن هي الطرق على جدران الخزّان. غسان كنفاني ـــ اسألوا جيل الفايسبوك ـــ أيقونة الأزمنة الراهنة.