تلفّ الدودة جسدها بـ«خيط حرير» لتتحول إلى شرنقة، ثم فراشة. تحوّل لا نشهده بملء العين، لكنه متوارٍ خلف خيط الحرير الذي يستر تفاصيل المكنونات، ولا يظهر سوى السطح الجميل، والنتيجة المبهرة، أي الفراشة. كذلك، تخبئ الأساطير، والقصص الشعبية داخلها أعقد التحولات، والموروثات الثقافية، لتقدمها في قالب خرافي يظهر جميلاً وشاعرياً. ذلك هو خيط الحرير الذي قررت «زقاق» أن تسحبه بخفة وإتقان كي تفضح المستور ضمن قالب مسرح موقعي.
من البيوت الصغيرة، والصناديق المحمّلة بالحكايات في عرضها السابق «علبة الموسيقى»، انتقلت مايا زبيب مع فرقة «زقاق» إلى بناية «زيكو هاوس» (سبيرز _ بيروت) لتقدم «خيط حرير»، عمل جماعي للفرقة (نص ودراماتورجيا وأداء) من إخراج مايا زبيب. في الحديقة الخلفية للبيوت، تُفضح الأسرار. في تلك المساحة الواقعة بين العام والخاص، يُنشر الغسيل، ومفاتيح أسرار البيت. في مشهد الافتتاح، وفي لحظة «بازولينية»، تدخل ثلاث راهبات (دانيا حمود، ولميا أبي عازار، ومايا زبيب)، يجلن بين الجمهور، لينشرن ثيابهن وأخبارهن على السطح. إنهن حاملات الأسرار الدفينة، والعالمات بالخفايا، وبغرفة الموت داخل «قصر اللحية الزرقاء». شهوة الجنس المحفوفة بالموت، لا يجيد قراءتها بصوت خافت سوى من ندر عذريته للحياة... الراهبات.
من الميثولوجيا، مروراً بالخرافات والأساطير الحديثة، وصولاً إلى القصص المعاصرة وأحداث الحاضر، يغرف العرض حكاياته وأحداثه التي تجري في ضيعة «كفرجهل». كلمة «كفر» تعني «القرية»، وهي منحدرة من مصدر الفعل «كفر _ يكفر الشيء» (غطاه وستره). بهذا المعنى، فالقرى تستر ما في داخلها، وقرية «خيط حرير» تكفر الجهل المعشّش فيها. جهل يتخذ أشكالاً متعددة ضمن مشاهد موزعة على غرف ثلاث طبقات لإحدى البنايات. هي قصة «الهبلة» كما يقول الممثلان جنيد سري الدين وهاشم عدنان التي يتناوب على اغتصابها رجال القرية قبل أن تقتلهم ذبحاً وهم نيام إلى جانب نسائهم. لن تفلت «الهبلة» من العقاب؛ لأنّ نساء القرية سيلحقنها، ويرجمنها، ويقتلنها، ويسحلنها، ويعلقنها تحت شجرة في وسط القرية. روايات تعود بنا إلى «كترمايا»، وأخرى إلى تلك الفنانة التي وجدت منذ سنوات مرمية على حافة الطريق، مرتدية فستان عرس، بعدما اغتصبت... وغيرها من الوقائع التي سمعناها يوماً، وخضّتنا، ثم قررنا أن نحذفها من ذاكرتنا.
هناك أيضاً في مطبخ متعفن، امرأتان باللباس الأسود، ووجوه هاربة من لوحة لفريدا كالو يغلين ركوة القهوة المخلوطة ببصاق المرأة الثالثة الغائبة. يصرخن ويغضبن على كل من جعلهن كائنات حقودات. وفي غرفة ثانية، نستعيد قصة حبة البازيلا التي اقتبست لفحص شرف البنت. وامرأة تغسل رجليها بالحليب، وأخرى على الأرجوحة مقطوعة اليدين والرجلين... لنعد أدراجنا، إلى الأسفل من جديد إلى قرية «كفرجهل» حيث أدوات الجرائم محفوظة، ومعروضة، وكُتبت جميع تلك القصص وغيرها على قبور كل من مات، وقتل، وشنق، وذبح... كي يتعظ القارئ. لساعة ونصف، يجول أعضاء «زقاق» بالجمهور من طبقة إلى أخرى، ومن غرفة إلى أخرى، حيث حكاية جديدة عن شهوة، وجنس، وقتل... غرائز تشكل أساس رغباتنا الدفينة التي نحيا في صراع معها، نتقبلها حيناً، ونكبتها أحياناً، لكنها تبقى أسراراً ندفنها ونرميها في خفايا قصص وخرافات نتداولها كل يوم، ببراءة وخفة.
عرض استثنائي يرتبط بالموروث الثقافي للمنطقة من ناحية المستور ضمن قالب يجمع لغات فنية متعددة، مثل الفيديو (مايا الشامي)، والتجهيز، وفنون أداء تكسر الحائط الرابع لتعيد خلقه في مشاهد أخرى. عرض غني في مساءلته للمجتمع الذي نعيش فيه، يكرّس نقلة مميزة في عمل «زقاق».


«خيط حرير»: 8:30 اليوم ـــ ومن 11 حتى 13 أيار (مايو) ـــ «زيكو هاوس» (سبيرز ــ بيروت) ــ للاستعلام: 03/505246



إلى برلين ومرسيليا

تعتمد «زقاق» في أعمالها المسرحية على البحث الجماعي الذي يقوده في كل مرة أحد أعضاء الفرقة إخراجياً. بعدما قدمت «هاملت ماكينة» بعرضين مختلفين من إخراج عمر أبي عازار، تقدم الفرقة اليوم عملها الثالث «خيط حرير» من إخراج مايا زبيب. عرض مسرحي موقعي يقدَّم في «زيكو هاوس» اليوم. وسينتقل كذلك إلى برلين ليقدم في 19 و20 حزيران (يونيو) ضمن مهرجان Voicing Resistance. أما في عام 2013، فسيعرض في مرسيليا، ضمن فاعليات «مرسيليا، عاصمة للثقافة الأوروبية». وفي كل مرة يقدَّم فيها «خيط حرير»، سيُشتغَل على العرض وفق شكل الفضاء الجديد، ليكتسب بذلك رونقاً جديداً.