بغداد | لم يمت محمود صبري! هذا على الأقل ما نعرفه من معظم وسائل الإعلام التي لم تحفل كثيراً برحيل أحد أبرز التشكيليين العراقيين، بل اكتفت بإيراد خبر رحيله، بينما خصّته صحيفتان فقط بملف كامل عن سيرته وتجربته. الرسام الذي ترك إدارة المصارف في بغداد في أوائل ستينيات القرن الماضي، ماضياً في رحلة اغتراب امتدّت خمسة عقود بين موسكو وبراغ ولندن، رحل في مدينة الضباب، تاركاً تجربة رائدة في عالم الفن الثالث العربي.
بيانات النعي التي صدرت عن وزارة الثقافة والحزب الشيوعيّ العراقيّ وجمعيّة الفنّانين التشكيليّين العراقيّين، لم تطالب بنقل جثمان صبري (1927) إلى بلده الذي غادره تزامناً مع وصول «حزب البعث» إلى السلطة. هكذا، يُنسى صاحب نظرية «واقعية الكمّ» التي لطالما اقترن اسمه بها منذ إعلانها في العاصمة التشيكية عام
1972.
بعدما أنهى دراسة العلوم السياسية في لندن عام 1949، التحق صبري بمدرسة لهواة الرسم في العاصمة البريطانية، قبل أن ينضم إلى «جماعة الروّاد» التي أسسها الفنان فائق حسن. في تلك الفترة، بدأت الميول اليسارية تظهر في شخصية صبري. بدا ذلك جليّاً في رسومه عن الطبقة الكادحة التي تبنّى الدفاع عنها. من خلال تلك الأعمال، حاول صبري تقريب الفنّ من عامة الناس. هذا ما نقع عليه، مثلاً، في لوحتيه «الانتظار» (عن المومسات) و«طبيعة جامدة»، فضلاً عن هذا، يبرز البعد الثوري في تجربته، وخصوصاً في عمله الأبرز «ثورة الجزائر»، الذي عدّه الناقد سهيل سامي نادر «غيرنيكا عربيّة»، توازي لوحة بيكاسو، ولا سيما في تصويرها حركات الأجساد المنتفضة التي توحي بالتحرّر.
دخل محمود صبري «معهد سوريكوف الفني» في موسكو عام 1960، وانضم هناك إلى «حركة الدفاع عن الشعب العراقي» التي نشأت عقب انقلاب 1963. في عام 1976، قدم عمله «تل الزعتر»، الذي تناول فيه المذبحة الفلسطينيّة المروعة، ثم أتبعه بـ«حامل الصليب» التي كانت بمثابة تحية إلى الشعبين اللبناني والفلسطينيّ. يعتقد الكثير من النقاد أنّ أهم ما حملته تجربة محمود صبري هو بيان «واقعية الكم»، الذي جاء فيه أن «واقعيّة الكم ستحوّل الفنّ من نشاط ذاتيّ فرديّ إلى قراءة موضوعيّة علميّة للحياة». أثار البيان اهتمام الأوساط الفنية في بغداد، حيث رأى بعضهم فيه «اتجاهاً صوب ما بعد الرسم»، فيما عدّ الناقد الفني نزار الراوي بيان صبري امتداداً لنظرية فيثاغورس، ومناداته بالفهم الرياضي
للجمال.