اللون هو روح اللوحة في تجربة حسن جوني (1942). المعجم اللوني أول ما يلفت حواسنا ونحن ندخل معرضه في «غاليري ألوان»، حيث ستون لوحة تعكس التراكم الطويل لممارسة تشكيلية توزعت بين توثيق مشهديات الحياة المدينية في بيروت، والحنين إلى الفردوس الريفي. على طرفي هذه المعادلة البصرية، انحاز حسن جوني إلى جموع المواطنين البسطاء في حياتهم اليومية، التي كسرت الحروب طمأنينتها، وتكفّل السلم البارد بإدامة قلقهم من المستقبل.
هكذا، امتلأت أعماله بالباعة المتجولين وحركة الناس في الأسواق الشعبية ورواد المقاهي ومتريّضي الكورنيش البحري، بينما أرَّخت لوحاته الريفية لوداعة البيوت المتلاصقة ومواسم الألوان في الحقول. الموضوعات الواضحة لا تُخفي البطولة المطلقة الممنوحة للألوان. لا يزال الرسام اللبناني المخضرم مخلصاً لهوية اللوحة ومرجعيتها اللونية. لا يعترض على التحولات الدراماتيكية التي طرأت على «فن اللوحة»، لكن أعماله ظلت في منأىً عن هذه التحولات. استثمر جوني الإرث الواسع للتيارات الانطباعية والتعبيرية والتكعيبية. دراسته العليا للرسم وتاريخ الفن في مدريد خصَّبت لوحته بالألوان الحارة والمساحات الباذخة. هناك مزجٌ ذكي بين واقعية الموضوع المحلي ومذاقات الفلامنكو والأندلسيات، لكن الألوان الكرنفالية خاضعة لانضباط أسلوبي يمنعها من الاستطراد الساذج والميوعة العاطفية.
الموضوعات المدينية والريفية حاضرة بالكثافة ذاتها في معرضه الحالي، إضافةً إلى لوحات تترجم العبور بين المشهدين، كما هي الحال في مسافري الحافلات القديمة، وحالات الانتظار مع الأمتعة والحقائب. المدينة حاضرة بحشود الناس في سوق الطيور والأدوات المستعملة، وموقف الباصات، وصيادي البحر، وراكبي الدراجات، والباحثين في قمامة الحاويات. كأن حسن جوني يحتفي بقاع المدينة وهوامشها، أو يحفُّ ماضيها الجميل بحاضرها القَلِق. تتخطّى لوحاته التوثيق المباشر والسطحي إلى مناخات العزلة والوحشة التي تنبعث من الأشكال البشرية. هناك مذاق نثري وغنائية خافتة في أعمال حسن جوني. مذاق يقرّب ممارساته اللونية من القصائد التي تحتفي بالتفاصيل المهملة ومجريات الحياة اليومية. في المقابل، هناك لوحات ريفية منجزة بقياسات صغيرة، تترجم هروباً من قسوة المدينة وفضاءاتها الإسمنتية، حيث تشرق شمس ساطعة على سفوح وسهول، وتتلاصق بيوت حميمة داخل خضرة شاسعة. في المدينة أو الريف، لا يختصر موضوع اللوحة التقنيات المبذولة فيها. الانطباع الأول يظل انطباعاً لونياً في أعمال حسن جوني. هناك سرٌّ ما في خلطة الألوان يجعلها نَضِرة وجديدة. كأنها مسفوحة للتوّ على مساحاتها المفترضة. الأشكال البشرية منجزة بمزيج من التشخيص التعبيري والتجريد الموارب. يشتغل جوني على الجزئيات المتناهية في الصغر. يمحو ألوانه في بعض المساحات، ويكتّلها في مساحات أخرى. الأحمر والأزرق حاضران بكثرة إلى جوار الأصفر والأخضر والترابي. أحياناً، نحسّ أنّ الكتل البشرية حصيلة مزاجٍ عاصف أثناء العمل، بينما تبدو الأعمال الريفية غارقة في مشحات لونية قليلة السُّمك.
الانحياز إلى مشهديات الواقع بات جزءاً من توقيع حسن جوني وأسلوبيته. لعل توثيقه للباحثين في القمامة هو الطبقة الأحدث في تردّي حال المدينة التي لا يزال يحبها ويرسم يومياتها. المعرض ــ بهذا المعنى ــ أشبه بمرثية ذاتية لمسقط الرأس. مرثية تدفن مذاقها الحزين داخل فورة الألوان وبهجتها الآسرة.

* معرض حسن جوني: حتى اليوم ـــ «غاليري ألوان» (صيفي فيلادج) ــ للاستعلام: 01/975250



مناخ أوركسترالي

هناك مناخ أوركسترالي في أعمال حسن جوني. لا يتجلى ذلك في شغفه برسم مجموعات بشرية فقط، بل أيضاً بالمزاج اللوني الذي يحكم ظهور هؤلاء في لوحته. كأن حركة البشر في الواقع تُترجم في الأداء اللوني المتعدد الطبقات، وفي الهارموني الذي تسعى جمهرة الألوان إلى تحقيقه. صنع جوني توقيعه الشخصي وحساسيته التشكيلية من صداقة طويلة مع موضوعاته الأثيرة، ومن الشكلانيات الجمالية والغنائية التي واظب على تطويرها. لم يكرِّر هذه الموضوعات بقدر ما راقب إيقاع الحياة البيروتية، وقلّب ألبوم تحولاتها وروائحها ومذاقاتها. لوحات المعرض تؤكد أن حاضر المدينة يزداد قسوةً. كأن الحاضر يطرد عين الرسام إلى الريف، أو إلى الماضي الذي لا يزال يقاوم في الهوامش الحميمة للبشر والبيوت القديمة.