لا يكاد يمرّ يوم على الصحافة الغربية من دون تسجيل تراجع في حرياتها وخلل في تطبيق مبادئها الأساسية. قبضة المال ما زالت هنا، وازدادت شدّتها بعدما باتت المؤسسات الصحافية بحاجة ماسة الى المتموّلين من أجل الحفاظ على وجودها في زمن الأزمات المالية القاتلة. قمع الصحافيين خلال التغطيات وسجنهم، وعرقلة العمل الاستقصائي، ومنع وصول الصورة ومحاكمة أصحاب الرأي من قبل السلطات الحاكمة، مستمر أيضاً في ظل ارتباك حكومات العالم أمام التحركات الشعبية وتلبية مطالب مواطنيها لإخماد غضبهم.
في الولايات المتحدة الأميركية، كما في معظم الدول الأوروبية، لم يفسح أصحاب الصحف وناشروها المجال للتضامن الكلي مع حركة Occupy التي حاولت القيام بثورة ضد النظام المالي القائم. ورغم التغطيات الإعلامية، لم تتبنّ معظم المؤسسات الإعلامية السائدة القضية الشعبية ولم تدعمها أو تسوّق لها بالشكل الضاغط المطلوب. من جهة أخرى، أدى شراء صحيفة «لو موند» الفرنسية من قبل مجموعة مؤلفة من ثلاثة رجال أعمال الى مشاكل نقابية وتحريرية لدى العاملين في الصحيفة الذين طالبوا بكف أيدي الممولين عن السياسة التحريرية.
ومن المال الى اللوبي الإسرائيلي الصهيوني الذي ما زال حاضراً بقوة في الاعلام الاميركي والفرنسي والبريطاني، يراقب ويمارس ضغوطاً ويعدّل مقالات ويوجّه السياسات التحريرية للقنوات التلفزيونية وأبرز الصحف. من فضيحة «بايكوم» British Israeli Communication التي أملت على صحافيي «هيئة الاذاعة البريطانية» و«سكاي نيوز» وصحيفة «ذي فاينانشل تايمز» كيفية كتابة مواضيعهم، الى ممارسة بعض المسؤولين والصحافيين الاسرائيليين الضغوط على مديرة مكتب «نيويورك تايمز» في القدس المحتلة جودي رودورين ورصدهم تعليقاتها على «تويتر»، الى تدخل السفير الاسرائيلي في واشنطن أخيراً لدى مديري شبكة «سي بي إس» محاولاً وقف بث حلقة من برنامج «60 دقيقة» عن مسيحيي الأراضي المحتلة.
فرنسياً، ظهر الارتهان الاعلامي للوبي الصهيوني في أحيان كثيرة، كان أبرزها احتفال المحطات والصحف الفرنسية بإطلاق سراح الأسير الاسرائيلي جلعاد شاليط، مقابل تجاهل فاضح للأسرى الفلسطينيين الذين أطلقوا في العملية نفسها. أما في حادثة مقتل ثلاثة أشخاص في اعتداء على مدرسة يهودية أخيراً، فتسابقت المحطات على إعلان الحداد والمزايدة في إدانة الحدث، في حين اقتصر خبر الإضراب التاريخي للأسير الفلسطيني خضر عدنان عن الطعام على عناوين باهتة ورواية إخبارية مرّت مرور الكرام... من دون أن ننسى تسجيل عهد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي انتهاكات غير مسبوقة، من بينها إقالة صحافيين بقرار رئاسي، ومنح الرئيس الحق بتسمية مدير التلفزة الفرنسية مباشرة.
«مدارس الصحافة» كما الأنظمة السياسية في الدول الغربية التي تتبجّح بالحرية والديموقراطية والموضوعية رسبت فيها كلها. والفشل الأكبر كان في امتحان «ويكيليكس» الذي كشف القناع عن تردّي وضع الحريات في تلك البلدان. 516 يوماً من الحصار المالي والضغوط السياسية، هذا ما «جنته» الوسيلة الاعلامية المثيرة للجدل «ويكيليكس» بعد قيامها بما لم تجرؤ عليه الصحافة التقليدية. 513 يوماً من التوقيف من دون تهمة، هو عقاب مؤسسها جوليان أسانج الذي فضح أسرار الأنظمة والحكّام وممارساتهم بحق الشعوب. 710 أيام في السجن من دون محاكمة لمن أسهم في تعرية الجسم الدبلوماسي الأميركي برادلي مانينغ.
في يوم حرية الصحافة العالمي، يحجز موقع «ويكيليكس» مكاناً له بين أبرز القضايا الاعلامية، كونه المؤسسة الصحافية التي مورست عليها ضغوط دولية ومصرفية وسياسية كبيرة بسبب نشرها أسرار المؤسسات الكبرى والحكّام، إضافة الى تهديدات مباشرة ودعوات إلى القتل من سياسيين ونواب أميركيين.
لكن «ويكيليكس»، التي تبنّت منذ نشأتها، نهجاً صحافياً مختلفاً وطرقاً غير تقليدية في كشف الحقائق، واجهت جداراً من الصحافة المرتهنة للأنظمة السياسية، فكانت بوقاً للدعاية المضادة التي شنتها السلطات السياسية على «ويكيليكس» ومؤسسها.