تونس | الطابع السلمي للمسيرة التي نظّمها «الاتحاد العام التونسي للشغل» في الأول من أيار (مايو)، وشارك فيها حوالى خمسين ألف شخص بين نقابيين ونشطاء سياسيين بمن فيهم أعضاء من حزب حركة «النهضة» الأساسي في الائتلاف الحاكم في تونس منذ 23 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، لم يمنع مجموعة من الملتحين من الاعتداء على فريق قناة «نسمة»، فأصيب أحد الصحافيين، ما استوجب نقله إلى المستشفى.
هذه الحادثة تعدّ واحدة من سلسلة حوادث عنف تعرض لها الصحافيون منذ صعود ائتلاف الترويكا إلى الحكم (راشد الغنوشي ومصطفى بن جعفر والمنصف المرزوقي). وهي محاولات اعتبرتها نقابة الصحافيين محاولات لإعادة الصحافيين إلى بيت الطاعة وتكميم الأفواه بهدف السيطرة على مفاصل الحياة السياسية وهياكل الدولة على طريقة الحزب الحاكم سابقاً الذي دجّن الإعلام وأخضعه لسيطرته المطلقة.
في اليوم العالمي لحرية الصحافة، يخوض الإعلاميون التونسيون معركة مع الحكومة وحزب «النهضة» محورها حرية الإعلام واستقلاليّته. فقد تعرضت مؤسسة التلفزة الوطنية لحصار دام أكثر من خمسين يوماً تحت شعار «اعتصام الأحرار لتطهير إعلام العار».
وقد انتهى الاعتصام نهاية دامية بعد جرح صحافي وتقنيين، ما دفع قوات الأمن إلى حل الاعتصام. وقبل ذلك، دعا زعيم حركة «النهضة» راشد الغنوشي إلى عرض الإعلام العمومي للبيع، وهي الدعوة نفسها التي أطلقها القيادي في حركة «النهضة» عامر العريض. وقد لقيت الدعوتان لبيع الإعلام العمومي، وخصوصاً التلفزة، استهجاناً من مختلف القوى الديمقراطية في تونس.
وقبل هذا الاحتقان الذي بلغته العلاقة بين الإعلاميين بكل أطيافهم من جهة، وبين الحكومة وحركة «النهضة» من جهة أخرى، كان عدد من الصحافيين قد تعرّضوا لعمليات تعنيف واعتداء أمثال زياد كريشان، وحمادي الرديسي وتواصلت هذه الممارسات مع صحافيين في المسيرات التي شهدتها الشوارع التونسية.
هذه الأحداث ليست إلا مجرد تفاصيل في الملف الكبير لحرية الإعلام. الحكومة احتفظت بعدد من قيادات الإعلام في عهد بن علي، بل منحت بعضاً منهم ترقيات مثل المدير العام للتلفزة التونسية عدنان خضر الذي أصبح يحمل رتبة كاتب دولة. وعلى رغم أنّها تؤكد تمسكها بحرية الإعلام واستقلاليّته، لكنها تعتبر أنّ الخط التحريري للإعلام التونسي في مجمله، وخصوصاً في التلفزة، غير موال للثورة وغير منحاز إلى الشعب، كما أكد ذلك رئيس الحكومة حمادي الجبالي ومستشاره السياسي لطفي زيتون. وهو التصريح نفسه الذي يردده زعيم حركة «النهضة» راشد الغنوشي. لكن في المقابل، عندما دعت الحكومة إلى «الاستشارة الوطنية لإصلاح الإعلام»، لم تتردد في دعوة بعض الوجوه المحسوبة على النظام السابق، وهو ما دفع ممثل النقابة العامة للإعلام والثقافة إلى الانسحاب، كما انسحبت سهام بن سدرين رئيسة «المجلس الأعلى للحريات» والناشطة الحقوقية البارزة ضد نظام بن علي.
هذا الأمر دفع الحكومة الى تأجيل الاستشارة بعد مقاطعة من قبل النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين والهيئة العليا لإصلاح الإعلام والاتصال. وتؤكد الهياكل الممثلة للصحافيين عدم جدية الحكومة في معالجة ملف الإعلام بما يضمن حياده واستقلاليته، ويحميه من ذلك التلكّؤ في إصدار المنشور المنظّم للهيئة العليا للإعلام السمعي البصري والتباطؤ في تجديد بطاقات الصحافيين المحترفين، إذ لم يجر تجديدها بعد مرور أربعة أشهر من التاريخ المفترض لتجديدها مطلع كل عام. إضافة إلى ذلك، تتمسّك الحكومة بعدم تفعيل المرسوم عدد 115 الذي يضمن حصانة الصحافي واستقلاليته.
إن التجاذب بين الإعلاميين من جهة والحكومة والحزب الأساسي فيها، أي حركة «النهضة»، من جهة أخرى ليس سوى وجه من وجوه الصراع السياسي اليوم في تونس. حركة «النهضة» التي تملك الأغلبية في المجلس التأسيسي لم تتمكن من فرض «الانضباط» على الإعلام الذي يصرّ على المشاكسة والتنبيه إلى مواطن الخلل والتقصير في أدائها. وفي الوقت الذي يرى فيه الإعلاميون أنّ الإنجاز الوحيد الذي تحقق حتى الآن هو الإجماع على مبدأ الحرية، ترى الحكومة أن الإعلام بما فيه العمومي، متحامل وغير منصف. الإعلاميون يتهمون الحكومة وحركة «النهضة» بالسعي إلى إدخالهم من جديد إلى بيت الطاعة، والحكومة تتهمهم بمعاداة الثورة. إنها معركة ليّ الذراع التي ستكون طريقة حسمها المؤشر الأساسي إلى الاتجاه الذي ستتخذه تونس: نحو الديمقراطية أم العودة إلى النقطة الصفر؟