(إلى فؤاد سليمان في مئويّته) في مدينة محتلّة أو خاضعة للاستبداد، قابعة تحت جزمات التتار، تعبر الأيدي الخفيّة في الهجيع الأخير من الليل، تتحدّى القهر والصمت القسري، وتكتب الحريّة على الجدران. الجدران لا تموت، الحريّة أيضاً لا تموت. لكن ماذا نقول عن مدينة تخفي قمعها، بل همجيّتها وقهرها وعصبيّاتها، خلف واجهة برّاقة، عصريّة، مغرية؟

مدينة بلا جدران، برسم السماسرة والمقاولين والقوادين على اختلافهم، في السياسة والبزنس والسياحة والفكر والاقتصاد والتنظيم المدني والثقافة والاعلام… مدينة الخدمات _ ومن جملتها الإعلاميّة: صحفها ذابلة، وتلفزيوناتها «منفتحة» إلى أقصى الحدود إلا في القضايا الأساسيّة، وتجاهد «ضدّ الإرهاب الثقافي» بتمويلات غامضة غالباً، انتقائيّة في وقوفها مع الحق، مزاجيّة في تحديد خطّها العام، تفضّل المذيعات السكسي اللواتي ينطقن الضاد بالفرنسيّة (ترقّبوا العبريّة قريباً). كيف يوصل الخوارج صوتهم في مدينة تعتبر نفسها عاصمة للحريّة، فيما إعلامها مكبّل بألف قيد، وفضاؤها العام صادره ملوك الطوائف، والهتافات ابتلعها الصدى في كرنفال التعددية العقيم؟ أين المتنفّس في مدينة نخبُها المكرّسة لا يطيب لها الاحتفال بالحريّة إلا في إسطبل السلطان؟ مدينة يصعب التفريق فيها بين الإعلامي والداعية، بين المدافع عن حريّة التعبير والجاسوس، بين «المناضل» والسمسار، بين الإصلاحي والفاسد، بين العلماني وكاره ذاته، بين اليساري والنصّاب… فالجميع يقتاتون من المعلف نفسه؟ إذا صدف أنّك مثلاً من دعاة تحقيق العدالة الاجتماعيّة، وتغيير النظام السياسي، ومقاومة الاستعمار، ستجده أمامك في التظاهرة، يرفعونه على الأكفّ فيهتف بشعاراتك. إنّه الليبرالي ـــ المرتزق، شاهد الزور ـــ المتعصّب للحقّ! وهذا النموذج تحديداً، من أكبر المخاطر التي تتهدد حريّة التعبير، أكثر من الأمن والعسكر والبلطجيّة والشبيحة مجتمعين…
نعم بيروت، مدينة العجائب والغرائب. العاصمة الوحيدة التي يقف فيها الفاشي والانعزالي والأصولي والطائفي والرجعي مع حريّة الشعوب العربيّة، تلك الشعوب التي استنزفها الطغاة طويلاً، قبل أن تخذلها «الثورة». وبيروت عاصمة الحريّات غارقة في فوضى مشهد سياسي وإعلامي غوغائي ومشوّش. تبدو المدينة جرحاً في خاصرة مجتمع ممزّق ماضٍ إلى التصحّر المدني والثقافي على شفا حروب أهليّة مقبلة. هكذا باتت الجدران، بالنسبة إلى جيل جديد ـــ يتيم على أكثر من صعيد ـــ هي الملاذ الأخير… جدران بيروت هي فضاء التمرّد والعصيان المدني بامتياز. والوحدة الوطنيّة أيضاً، وبوادر ولادة المجتمع المدني وتشكّل الرأي العام الذي يقوم عليه المجتمع الديموقراطي. الديموقراطيّة اليوم تبدأ من جدران بيروت. في هذا السياق بادرت مجموعة من الفنانين والكتّاب والناشطين إلى إعلان أول أيّار (مايو)، «يوم حريّة التعبير في لبنان». وتداعى أفراد المجموعة على الفايسبوك (راجع الرابط أدناه)، إلى التعبير على جدران المدينة وفوق أرصفتها عبر مختلف الوسائل والأدوات.
عيد العمّال هو أيضاً يوم الغرافيتي في لبنان، ليلة الغرافيتي بالأحرى. والغرافيتي في كل المجتمعات وسيلة تعبير بديلة، خارجة عن القانون أساساً. خارجة عن الثقافة الرسميّة والثقافة المكرّسة، ثقافة الصالونات والغاليريهات والمتاحف والأكاديميّات، والدوائر المغلقة، والطبقات المنتشية بيقينها، والنخب المهيمنة الواثقة من سلطتها وامتيازاتها. تلك النخب قد تكون يساريّة وتقدميّة طبعاً، لكنّها تشكّل سلطة قمعيّة في النتيجة. الغرافيتي ضدّ السلطة، أي سلطة، كل سلطة، تقدميّة كانت أو رجعيّة، متنوّرة أو ظلاميّة، عادلة أو مستبدّة. وسيطه الجدران، والجدران ستحتضن الليلة الإعلام البديل في المدينة. وسيلة تواصل فقيرة وشعبيّة لا تحتاج إلى المرور عبر «مواقع تواصل اجتماعية». قارورة من الرذاذ الأحمر تكفي… بضع كلمات طالعة من الوجع. رسمة جريئة ساخرة من المحظورات التي تفرضها المرحلة. الغرافيتي ـــ كما ذكّرتنا الأحداث الأخيرة في بيروت ـــ تحدٍّ للسلطة. للأوضاع القائمة. وسيلة تعبير بدائيّة وديموقراطيّة: متاحة للجميع وتصل إلى الجميع، بلا إقصاء. تتطلّب النزول إلى الشارع، لتحرير الفضاء العام أو إعادة امتلاكه. تفترض تماساً جسديّاً ومخاطرة حقيقية، لا يوفرهما تماماً الفضاء الافتراضي. «الغرافيتي» صوت الذين لا صوت لهم… الليلة في لبنان.
http://www.facebook.com/#!/events/139079346223243