هل هناك مكانٌ لمجلّات ثقافيّة وفكريّة في زمن وسائل الاتصال والتواصل الحديثة؟ وهل ثمّة ضرورة لإصدار مجلة يسارية تحديداً؟ وهل إعادة الاعتبار إلى أفكار وطموحات بقايا اليسار العربي ممكنة؟ بهذا النوع من الأسئلة والهواجس، تصدر فصلية «بدايات»، التي يقرّ رئيس تحريرها فوّاز طرابلسي بأن «انطلاقة الثورات الشعبية العربية» هي ما شجعت على «مغامرة» إصدار مجلة من هذا النوع. هكذا، تنضمّ المجلة الوليدة إلى مجلات «كلمن» و«الآخر»، و«الطريق»، التي استأنفت الصدور بعد سنوات من التوقف. كأنّ الحراك العربي «حرّك» النقاش حول دور المثقفين في التطورات الراهنة، وخصوصاً أن التنظيمات اليسارية والماركسية وجدت نفسها متخلّفة عن الحدث. لقد شاركت مجموعات يسارية وليبرالية، لكن «الربيع العربي» (وخصوصاً في مصر وتونس) أسقطها من قطف ثماره.
بهذا المعنى، يمكن استقبال المجلة كترجمة فكريّة تسعى إلى إحداث تعديلات جوهريّة في النتائج «الهزيلة» للثورات العربية المهدّدة بالخطف من قبل الإسلاميين والعسكر، أو بتقويضها من قبل جهات خارجية. كأن المجلة تعترف بأسبقية عبارة «الشعب يريد إسقاط النظام»، لكنها تسعى ـــ في الوقت نفسه ـــ إلى إيجاد حيّز لطموحاتها وأفكارها في طيّاتها. سعيٌ يترافق مع رغبة في تجديد الأفكار وتخصيبها بالثقافات المستجدة للأجيال الشابة.
تقترح علينا «بدايات» جرعات ثقافية متخفّفة من «ثقل دم» المعهود في التنظير المتعالي والمماحكات الإيديولوجية التقليدية. بطريقة ما، نحس أنّنا نقرأ تلك الموضوعات والمقالات التي تنشرها صفحات الرأي اليومية، لكنّها مكتوبة بجهد أدبي أعمق ونبرات أكثر رشاقة. غياب التنظير النقي يخفّف النخبوية أيضاً، وتصبح صفحات المجلة فضاءً لوجهات نظر متعددة. هكذا، تخوض المجلة أكثر من اختبار على صعيد الممارسة واللغة. اليسارية والماركسية موجودتان طبعاً، لكنهما ــ باستثناءات قليلة ــ متذرّرتان ومتذاوبتان في سياقات أوسع.
يتوزع العدد الأول على أبواب قابلة للتغيير لاحقاً. الثورات العربية تحتلّ المساحة الأوسع بالطبع، لكنّ الموضوعات المخصّصة لها مقسومة إلى مقالات نظرية وشهادات شخصية. تتناول المقالات جوانب مختلفة من هذه الثورات. يبحث فواز طرابلسي عن ممكنات «اليسار في الزمن الثوري»، وتناقش نهلة الشهال فكرة «نسوية جديدة» في الحراك العربي الراهن. يتناول خالد فهمي «ثورة الجسد»، وتنطلق سحر مندور من عُري علياء المهدي للحديث عن «ثورة... ضمن القواعد المرعية الإجراء». يحلّل محسن بو عزيزي المعاني السوسيولوجية لشعارات الثورة التونسية، وتتحدث إتيل عدنان عن الطاقات الثورية التي كشفتها الاحتجاجات العربية. ينعى الياس خوري بيروت التي تتفرج على الربيع العربي، وتواصل «شتاءها الحزين». تحت عنوان «الثورات بشبابها»، نقرأ شهادات ميدانية لمحمد خير من مصر، وجمال جبران وبشرى المقطري من اليمن، ومحمد دحنون من سوريا، وعلي الديري من البحرين. وتحت عنوان «يا عين»، تنشر المجلة صوراً للكلمات والرسوم التي خطها المتظاهرون على وجوههم وأياديهم، إضافة إلى لوحات للفنانة السورية رندا مداح، ونص للمخرج السوري أسامة محمد عن صورة لشاب من درعا يُجبر على تقبيل حذاء ضابط سوري.
في باب «حضور الغياب» احتفاءٌ بأصدقاء كان يمكن أن يسهموا في المجلة لو كانوا أحياءً. بهذه الروحية، نقرأ قصيدة «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» لمحمود درويش بخط يده، ومقالاً قديماً لجوزيف سماحة عن «معمر القذافي والوعي الصحراوي»، وآخر لسمير قصير عن «زخم المقاومة في جنوب لبنان»، إضافةً إلى سيناريو فيلم «أجمل الأمهات» لمارون بغدادي، ورسوم كاريكاتورية لمحي الدين اللباد.
في مراجعة احتفائية وسريعة، لا يمكن المرور على جميع مواد المجلّة التي خصصت باباً لمراجعات الكتب، وآخر بعنوان «ذاكرة» ضمّ وثائق الخارجية الأميركية عن التدخل العسكري في لبنان، ومقالات لنوام تشومسكي، ووضاح شرارة وإيجي تملكوران. أخيراً، نشير إلى الجاذبية اللافتة في تبويب المجلة وإخراجها الفني. جاذبية تسهم في إضفاء خفة وديناميكية على موضوعات المجلة، وتجعلها معاصرة ولائقة بزمنها.



يستضيف مطعم «وليمة/ وردة» (الحمراء/ بيروت) حفلة إطلاق المجلة بين السادسة والثامنة من مساء اليوم