«أُحبُّ في أغانيه الصوَر، أُفضّل أن يؤدّي هو أغانيه، وإن لم يكن مغنّياً. إنه مؤدٍّ جيّد، تفهم منه ما يقصد». هذه الكلمات لزياد الرحباني يقدم فيها صديقه مخول قاصوف، عشية صدور ألبومه «مثقفون نون» عام 1996. إنّه الطبيب الفنان الذي أطلق الأغنية الوطنية اللبنانية عام 1971، قبل أن تصير هذه الأغنية أناشيد الثوريين ونبراس الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية لسنوات طويلة.
في الخنشارة (جبل لبنان)، وفي مناخ حزبي علماني قريب من فكر أنطون سعادة، ولد مخول ابن مدير الريجي في الخنشارة فؤاد قاصوف. كان ذلك في عام 1949. لكنّ الطفل تربى في الأشرفية، حيث سكنت العائلة، وتعلّم في «مدرسة الحكمة»، أما الخنشارة فكانت الإقامة فيها تقتصر على العطل الصيفيّة. في الثانية عشرة، أهدى الوالد ابنه غيتاراً كهربائياً، بعدما التقط لديه اهتمامات بهذه الآلة. وفي عام 1963، شارك صاحب «جنوبيون» في تأسيس فرقة موسيقية غربيّة بعنوان «ديفيلز» تؤدي أغنيات الـ«البيتلز». وكان صاحبنا الصوت الثاني في الفرقة التي راحت تعزف في الفنادق والمرابع الليلية.
البيئة السياسية التي ترعرع فيها الفتى مخّول تركت بصماتها واضحة على وعيه وخياراته. بعد 1968، تعمّق في المراجع الماركسية والقومية، وقارب الفكر اليساري بمختلف اتجاهاته، وتأثّر بشخصيات مختلفة من الماريشال تيتو إلى تشي غيفارا، مروراً بجواهر لال نهرو. فنيّاً يمّم شطر الأغنية الفرنسية الملتزمة، وخصوصاً بعدما ارتاد جامعة «مونبلييه» في فرنسا لدراسة الطب، قبل أن يعود إلى الجامعة اليسوعية في بيروت. هكذا خيّمت على عالمه أغنيات جان فيرا وليو فيري وجورج موستاكي ... وكانت المرحلة السياسيّة في بيروت والمنطقة، تشهد المدّ القومي المتمحور حول قضيّة مركزيّة هي فلسطين. في خضمّ صدمة النكسة في عام 1967 وصعود المقاومة، شعر بحاجة إلى إرساء أسس أغنية جديدة تحمل هموم المرحلة، وتعكس هواجسها، فكانت الخطوات الأولى في اتجاه أغنية ملتزمة. في عام 1969 كتب «في خيامنا أطفال» أنشدها أمام المغنية اليسارية الفرنسية كاترين سوفاج في عام 1971، عندما زارت الجامعة اليسوعية وغنت هناك. ومن هنا بدأت رحلته في مجال الأغنية الملتزمة. كان الجو اليميني يخيم على الجامعة اليسوعية، وخصوصاً في كلية طب الأسنان التي انضم إليها قاصوف. لكن خلافاً للسائد، أقام الشاب في نهاية العام الدراسي حفلة خاصة على مسرح الجامعة، بموافقة إدارتها. هكذا، وقف يعزف وينشد من ألحانه وكلماته 17 أغنية، منها: «موظف»، «طلاب»، «شرف»، «مومس»، «ازرعوا أيديكم في الريح»، «عيوننا فيها حمام» (وهي مهداة إلى أطفال فلسطين)، «جنوبيون» و«عمال وفلاحين» وغيرها مع معزوفات موسيقية. يومها، كتبت الصحافة «عن هذا الحدث الغريب والأول من نوعه في لبنان، ومنهم الصحافي سمير نصري الذي كتب عنّي في «النهار» و«لوريان لوجور»». بعدها، حمل غيتاره، وصار يدور على المناطق الحدودية الجنوبية التي كانت قد بدأت معاناتها مع العدوان الإسرائيلي، وتشهد عمليات للمقاومة. راح يغني في ساحات كفركلا وحاصبيا والمجيدية وغيرها، وواكب قضايا اجتماعيّة ومطلبيّة مختلفة شهدتها المرحلة. كذلك جال على المخيمات الفلسطينية وفروع الجامعات اللبنانية. من تلك الأيّام يبقى عبق الاحتجاج والدعوة إلى الثورة والتغيير والعدالة، وقضايا الجنوب في الخطوط الأماميّة، وقضايا الطلاب وراية المقاومة. وفي عام 1973، ضمّت أسطوانته علامتين من علامات الأغنية الملتزمة: «جنوبيون» و«قلق»، أسهمتا في توسيع دائرة شهرته وانتشاره. في بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، تخرج طبيباً للأسنان، فوضع الغيتار جانباً لفترة مشغولاً بعيادته. لكنّه لم يقطع مع الفن. حاول التوفيق بين مهنته ونشاطه في الحزب السوري القومي الاجتماعي، حيث شغل بين 1970 و1982 منصب وكيل عميد الثقافة. كما نشط في الندوة الثقافية وفي الحملات الطبيّة الميدانيّة خلال سنوات الحرب. عند هذا المفترق، شهد النصف الثاني من السبعينيّات بروز تجارب مختلفة، راحت تنتشر وتخلق للأغنية السياسيّة أو الملتزمة فضاء شعبيّاً واسعاً. برز مارسيل خليفة، وأحمد قعبور، وخالد الهبر، فضلاً عن الحضور لزياد الرحباني الذي جمعته بقاصوف أكثر من محطة. ولم يعد قاصوف وحده في الميدان. كان على «بواب الفرح» أن يكافح بقدراته الذاتية والمالية لتسجيل أعماله وإصدارها. هكذا، لحن من كلمات الشاعر طلال حيدر عام 1978 أغنية «بدوية»، المعروفة بـ«ركوة عرب»، لكنها لم تسجل قبل عام 1980، تاريخ صدور أول مجموعة من أغنياته السياسية في شريط كاسيت بعنوان «إنتو كل الحكاية».
كانت المجموعة من توزيع سليم سحاب، ويأسف الفنّان اليوم لكون «التجربة كانت مرتبكة بسبب عدم توافر تقنيات صوت وتسجيل متطورة في حينه». ونذكر هنا أنّ أغنية «ركوة عرب» أعاد مارسيل خليفة تلحينها وتوزيعها في ألبوم يحمل هذا العنوان عام 1995. قبل ذلك، عرفت «ركوة عرب» رواجاً شعبياً جعل صاحبها يعيد تسجيلها عام 1985 في شريط كاسيت بعنوان «بواب الفرح» الذي تضمن ثماني أغنيات، شارك فيها سامي حواط ويحيى الداد غناءً، وزياد الرحباني عزفاً على البيانو، وجاء التوزيع الموسيقي لعبود السعدي. وضمت الأسطوانة أيضاً أغنية «ضلوا شعرا» من كلمات الشاعر الراحل كمال خير بك، صهر قاصوف.
بين 1986 و1987، سجل الفنان الطبيب مجموعة من الأغنيات، لكنه لم يصدرها إلا في عام 1991، على نفقته الخاصة. حملت الأسطوانة عنوان «كلو تمام»، وكانت من أدائه وأداء سامي حواط، وتضمّنت أغنية باتت شهيرة هي «مثقفون نون» التي «سجلت بناءً على إصرار زياد الرحباني الذي تولى توزيعها الموسيقي».
في 1996، أعاد عبد الله شاهين (صوت الشرق) تسجيل مجموعتي «بواب الفرح» و«كلو تمام» لتصدر في سي دي من 14 أغنية بعنوان «مثقفون نون»، قدم لها زياد الرحباني كالآتي: «مخول قاصوف والغيتار، بالعربية ومن دون آلة عود، كان سبّاقاً في تعاطي الأغنية السياسيّة قبل الحرب الأهلية».
مخّول شاعر أيضاً، أصدر «حروف على ورق النورس» (1982) و«مغارة الحلم» (1985). إلى جانب مهنته، والتدريس في كلية طب الأسنان في الجامعة اللبنانية، ما زال يجد الوقت الكافي للتأليف. في جعبته اليوم عدد كبير من الأغنيات التي تنتظر فرصة الخروج إلى الضوء. كما سيعيد «نادي لكل الناس» إصدار أسطوانته الأشهر تحت عنوان «مثقفون نون ـــ بلاس» مع أغنيتين كان قد ألغاهما في التسجيل السابق.
ما رأي المغنّي الملتزم بما يجري اليوم من حولنا، نسأل؟ قاصوف متحفّظ على تسمية «الثورات العربية». يرى أن هناك «أنظمة متخلفة فاسدة، وليس من بديل لها حالياً غير الحركات الإسلامية، التي تشبه أسلافها إلى حد كبير، ولا سيما في موضوع التكفير الذي استخدمته حتى الأحزاب العلمانية. وسيتمّ كل ذلك تبعاً لسيناريو ترسمه الولايات المتحدة الأميركية خدمة لمصالحها». والمثقفون؟ يجيب بلا تردّد: «موزعون على بلاطات السلاطين وأمراء المال والسلطة».



5 تواتريخ

1949
الولادة في الخنشارة (المتن الجنوبي ـــ جبل لبنان).

1973
صدور أسطوانة باسمه ضمّت أغنيتين هما «جنوبيون» و«قلق».

1985
أصدر أسطوانة «بواب الفرح» التي تضمّنت ثماني أغنيات، شارك فيها سامي حواط ويحيى الداد غناءً وزياد الرحباني عزفاً على البيانو.

1996
صدور ألبوم «مثقفون نون» عن «صوت الشرق» ضمّ 14 أغنية وقدّم له زياد الرحباني.

2012
يعيد تسجيل أسطوانة
«مثقفون نون ـــ بلاس» بالتعاون مع «نادي لكل الناس».