بدأ الحضور البارز لـ«الجزيرة» في البحرين عام 2005. عُيِّن الإعلامي محمد الشروقي مراسلاً مؤقتاً للقناة، وكانت كاميرتها حاضرة بتقارير يومية عن اعتقال المدوّنين. كان هذا كفيلاً بعدم التجديد للشروقي وإسقاط هذا الخيار. لم يكن لـ«الجزيرة» مكتب في البحرين في يوم من الأيام. لكن سلطات البحرين جمّدت نشاط صحافيي القناة في 19 أيار (مايو) 2010 عندما أذاع أحمد بشتو تقريراً عن «الفقر في البحرين» ضمن برنامجه «الاقتصاد والناس». لكن الغريب أنّ ذلك لم يؤثر في سياسة «الجزيرة»، «راعية الثورات»، في تعاطيها مع ثورة جارة ستندلع بُعيد ذلك بأشهر قليلة.
بعد تونس والقاهرة، جاء موعد المنامة في 14شباط (فبراير) 2011، أغرق الناشطون البحرينيون القناة القطرية وحسابها على تويتر بفيديوات التظاهرات والانتهاكات وقمع السلطة. نقلت «الجزيرة» الأخبار بحذر شديد، وكان سوراً ما يؤطّر تغطياتها. وتحت إلحاح النشطاء ووطأة الحدث، طلبت المحطة إيفاد مراسلها إلى البحرين، إلا أنّ السلطة اشترطت أن يكون غسان أبو حسين!
بدا الحراك البحريني عارماً، كان نصف الشعب في الشارع، لكن سياسة المحطة القطرية أصرّت على اعتباره أحداثاً لا ثورة. خصص أبو حسين نصف تقاريره لوجهة النظر الرسمية أمام زخم المسيرات والحدث، بينما اشتكى النشطاء من ضآلة الوقت المخصص لأحداث البحرين، واستاءت القوى اليسارية والليبرالية المنخرطة في الحراك من وصفها بالشيعية.
كنت أقارن التقارير التي تخرج من البحرين بالمشاهد الحية التي تلتقطها عدسة «الجزيرة» من الطبقة السادسة في فندق العباسية في ميدان التحرير في القاهرة. ادّعت المحطة أن إمكاناتها لا تعينها على النقل الحي من البحرين، فأمدّها النشطاء بالصور الحية من أبراج اللؤلؤة المطلة على الميدان من دون جدوى! استمر الوضع على هذه الحال حتى دخول قوات درع الجزيرة، وصار أبو حسين خارج الخدمة... فجأة!
قناة «الجزيرة» الإنكليزية تعاطت بطريقة مختلفة مع الثورة. كان فريقها أكثر التصاقاً بالنشطاء الذين حموهم، وحصلوا على أهم مشاهد ثورة كان عطاء الدم فيها لا يتوقف، وكان رصاص الجيش وقمع السلطة فيها كباقي الأسلحة، لا يعرف الأديان والطوائف إلا مع التقارير التي تودّ ذلك.
استمر النشطاء بمدّ «الجزيرة» بالمواد الإعلامية. وجدت هذه الأخيرة طريقها إلى القناة الإنكليزية فقط. نقلتُ هذه الملاحظة إلى الأستاذ غسان بن جدو في نهاية آذار (مارس) 2011. يومها، أبلغني استياءه من «الجزيرة» التي كان عازماً على مغادرتها، وهكذا كان.
بعد عام على الحراك المستمر، تتذرع القناة بعدم وجود مكتب لها يعينها على تغطية أحداث البحرين، حقاً؟! يظن السامع أنّنا سنتعثّر بمكاتب «الجزيرة» في ربوع سوريا التي تمتد تغطيتها في نشرة الأخبار إلى نصف ساعة أحياناً، وعلى ثوار البحرين أن يفرحوا بـ25 ثانية يخصص نصفها لوجهة النظر الرسمية في محطة «الرأي والرأي الآخر».
على النقيض من ذلك، كانت «الجزيرة» الإنكليزية حاضرة في البحرين ببرامجها وتقاريرها الإخبارية. ولا يزال شريطها الوثائقي «البحرين... صراخ في الظلام» يحصد الجوائز، وآخرها جائزة «جورج بولك» الدولية التي قدمت للصحافية ماي ولش والمنتج حسن محفوظ. الوثائقي نفسه وصفه وزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة بـ«المكيف»، وأضاف عبر حسابه على تويتر: «من الواضح أنّ في قطر مَن لا يريد خيراً للبحرين. وما الفيلم المكيّف في «الجزيرة» الإنكليزية سوى خير مثال على العداء غير المفهوم».
وعبر تويتر أيضاً، جاء رد سفير قطر لدى البحرين الشيخ عبد الله آل ثاني (بو ثامر): «يستغل العاطفة ليزيد في نشر سمومه، فلا يتورع في ذلك حين يذكر أن هناك من يضمر السوء في قطر. (...) أحترم البحرين ملكاً وحكومة وولي العهد وشعباً غالياً على قلبي عشت معه لإحدى عشرة سنة (...) تعلمت الكثير فيه وله كل احترامي. أما من يتطاول على قطر ورموزها، فسأردّ بتوضيح الحقائق باحترام، ولن يعنيني السفهاء». التقطت صحيفة «الراية» القطرية خيط الأزمة، فخصصت افتتاحيتها للرد: «الإخوة هناك صبّوا جام غضبهم ليس على القناة، بل على دولة قطر الرسمية باعتبارها، حسب زعمهم، المحرّض الأول على بث الفيلم والموجّه الحقيقي لسياسة «الجزيرة» ككل»، وهو ما يختصر العلاقة بين «الجزيرة» وكل الأطراف البحرينية.
لا يمكن قراءة «الجزيرة» بعيداً عن السياسة. تلف قطر حبال الجزيرة حول السياسة. أما في البحرين، فإنّ سياسة قطر تلف حبالها حول «الجزيرة». يمكن توسّل الأعذار لهذه الثنائية التي أرادت أن «تلعب» دوراً مؤثراً طيلة شباط (فبراير) وآذار (مارس) الماضيين. وفعلاً، تقدمت الحكومة القطرية بمبادرات سياسية رفضت سعودياً. بل كان رئيس الوزراء ووزير خارجية قطر حاضراً في المشهد البحريني حتى اللحظات الأخيرة قبل اقتحام ميدان اللؤلؤة. لكن بعد عام على القمع المستمر، لا يصح اعتبار ذلك ذريعة لامتناع القناة العربية عن أداء واجبها الإعلامي مع الزهرة المنسية في الربيع العربي.
* ناشط بحريني


«صراخ في الظلام» يفوز بجائزة صحافية عريقة للمرة الثانية

افتتاحية الراية القطرية: «فوبيا الجزيرة» وفن التعامل مع الإعلام .. البحرين مثالاً