لا تكلّ هذه المرأة ولا تملّ. منذ أيام الدراسة في التسعينيات، وهي تناضل في مواجهة الظلم والفساد وسيطرة الدين وتعذيب المعتقلين. قد لا يدلّ وجهها الطفولي وجسدها النحيل على قوّتها. لكن قوّة الطبيبة النفسية والفنانة والكاتبة ليست في جسدها. ابنة القاهرة تنبّأت بانتفاضة شعبية، في كتابها «إغراء السلطة المطلقة» الذي صدر قبل يوم واحد من «ثورة يناير». اليوم بعد سقوط الديكتاتورية، لا تبدو متفائلة. «غيّرنا الأسماء فقط». تقول ثم تضيف: «أتوقّع أن تقوم الطبقة العاملة بثورة جديدة».
كانت كليّة الطب حكراً على جماعة الإخوان المسلمين، عندما التحقت بها في التسعينيات. حينها، كانت بسمة عبد العزيز من بين قلّة من الطالبات غير المحجبات. حاولت الجماعة هدايتها إلى «الطريق المستقيم». لكن صاحبة «علشان ربنا يسهّل» (مجموعة قصصية؛ «دار ميريت»/ 2007) ردّت على طريقتها الخاصة. أعدّت مقالات ومواضيع تتناول الحجاب وحقوق المرأة، ووضعتها في مجلة الحائط الخاصة بالكلية. انتُزعت المجلة من مكانها، وكانت المفارقة أن من قام بذلك هم عناصر أمن، وليسوا أعضاءً من الإخوان. «لم يرقْ الأمن وجود صوت يساري يطالب بالمساواة وحقوق الإنسان في الجامعة. تنظيم مماثل يسبّب إرباكاً للجميع». لم يكن «التنظيم» يضمّ أحداً سوى بسمة. وحدها، كانت تعدّ مواد المجلة، وتنسخ أعداداً احتياطية منها، لتلصقها على الحائط بدل تلك التي تُنتزع. تروي أنها راقبت الشاب الذي ينتزع المجلة ذات مرة. شاهدته وهو يأخذها من مكانها على الجدار ويرحل. تبعته، إلى أن دخل مقرّ أمن الدولة. دخلت وراءه من دون خوف، واستعادت المجلة بعدما وضعها الشاب على أحد المكاتب. «كنّا نرفض احتكار التيارات الدينية للجامعة. لم يكن ثمة بديل لهم، ولهذا بدأنا بتجميع أنفسنا. لم نكن سوى ستة أشخاص عندما تظاهرنا في عام 2000 دفاعاً عن الانتفاضة الفلسطينية. كان عددنا قليلاً جداً، ولم يتمكّن أحد من رصدنا»، تقول وهي تضحك: «كان عددنا قليلاً، لكن مؤثراً». بعد تخرّجها في كلية الطب، لم تكتب بسمة في ورقة رغبات التخصّص سوى «طب نفسي». في ذلك الوقت، كان الطلاب يملأون هذه الرغبة بحثاً عن وظيفة في الجامعة. لكنّ صاحبتنا كانت مؤمنة بأن عالم فرويد وواطسُن هو الملجأ الوحيد لها، «خصوصاً أنّه قريب من عالم الأدب والفنون». اصطدمت رغبتها هذه باعتراض جماعة وأفراد أمن الدولة الذين لم ينسَوا بعد «تجاوزاتها» في الجامعة. لكنّ هذا لم يثنها عن المطالبة بحقّها في الوظيفة. رفعت دعوى قضائية استمرت خمس سنوات كاملة، لتنال أخيراً حقّها، قبل أيام من اندلاع الثورة. لكن حتى هذا الوقت، لم تنسها جماعة الأمن. «سأل عدد من ضباط أمن الدولة عن موعد مناقشة رسالة الماجستير الخاصة بي. وفعلاً، حضروا المناقشة. بعد قليل، انقطع التيار الكهربائي فجأة. ويبدو أنهم فعلوا ذلك عمداً. كادت المناقشة أن تُلغى لولا أن وقفت الدكتورة عايدة سيف الدولة وهدّدت بإصدار بيان مشترك مع بعض المنظمات الحقوقية لإدانة ما حدث. بعد ثوان، عاد التيار، واستكملنا مناقشة الرسالة!». كانت رسالتها عن التعذيب ــــ القضية التي تشغلها دائماً. بحثت بسمة في «ما وراء التعذيب» («ميريت»/ 2007)، ونبشت في الجوانب النفسية والسياسية المتعلقة بهذه «المنظومة الشنيعة». نزلت إلى الأرض، وتناولت عيّنات ممّن عُذّبوا وعُنّفوا. هنا، تروي حكاية ربيع سليمان: «مواطن عادي، من إحدى قرى الفيّوم (جنوبي القاهرة). أصرّ ضابط شرطة على احتجازه حتى يعترف بسرقة بقرة، رغم أن عناصر شرطة آخرين فتشوا بيته ولم يجدوا شيئاً. أقدم الضابط على إحراق ربيع بالكيروسين. اعتقدَ أنه مات، فألقى به أمام مستشفى الفيوم. لكن ربيع لم يمت على الفور، بل بعد أيام متأثراً بحروقه». تشير بسمة إلى أنّها عندما شاهدت صورة ربيع تحت التعذيب، قررت أن يكون الدفاع عن ضحايا التعذيب قضيتها الأولى. تعود بذاكرتها إلى الوراء قليلاً، بحثاً عن قصص مؤلمة أخرى. تتذكّر ما حدث للناشط السياسي مايكل نبيل الذي أصرّ «العسكر» على تحويله إلى مستشفى الأمراض العقلية. حينها رفضت بسمة قرار المجلس العسكري، وأصدرت بياناً يدين «إحالة النشطاء السياسيين وأصحاب الرأي على المستشفيات النفسية بدعوى تقييم قواهم العقلية». بعد البيان، حُوّلت الطبيبة إلى التحقيق الإداري في وزارة الصحة، إلّا أن وقوف المئات من الأطباء والمدنيين قربها، دفع الوزارة إلى إلغاء التحقيق. انطلاقاً من هذه القاعدة الصلبة التي أسستها في مواجهة الظلم والاستبداد والتنكيل بالإنسان، جاء كتابها «إغراء السلطة المطلقة» (دار صفصافة/ 2011). في هذا الكتاب، تتبّعت بسمة مسار العنف في العلاقة بين جهاز الشرطة والناس العاديين. بحثت في تاريخ تكوين الأجهزة الأمنية، ورصدت تعذيبها للمصريين منذ الفراعنة حتى يومنا الحاضر. عندما تسلّمت نسخها من الكتاب، قبل يوم من اندلاع «ثورة يناير»، كانت متيقنة من اعتقالها هذه المرة. ففي آخر صفحات الكتاب، توقّعت الطبيبة الشابة قيام ثورة في مصر، «لكني فوجئت باندلاعها سريعاً». في اليوم التالي، عندما امتلأ «ميدان التحرير» بحشود من المصريين الغاضبين، راحت نُسخ الكتاب تُوزّع بين الناس، بعدما رفضته دور النشر (باستثناء «الصفصافة» التي وافقت على طباعته).
الآن، لا تبدو بسمة متفائلة. كل الأحداث التي أعقبت سقوط حسني مبارك، لا تعجبها. «ما فيش حاجة تغيّرت. غيّرنا الأسماء فقط». يدفعها هذا إلى توقّع اندلاع ثورة جديدة، تقوم بها الطبقة العاملة. «لو ثارت الطبقة هذه فعلاً، فسيحدث تغيير حقيقي وجذري. لكنْ إن لم يصنع العمّال الثورة الجديدة... فربنّا يستر». دعاء بسمة هذا يقترن بأدعيتها الكثيرة التي لا يخلو بعضها من الظرافة. «أتمنى لو يطول اليوم ليصبح 40 ساعة. الـ24 ساعة لا تكفي لأمارس كلّ نشاطاتي»، تقول ثم تضحك وهي تعدّد المجالات والفنون التي تعمل فيها: «إلى جانب عملي الأساسي كطبيبة، أكتب القصة، وأمارس الرسم والنحت والتصوير الضوئي وعزف البيانو، كما أنشط في مجال حقوق الإنسان». إجادة السيدة الشابة لكلّ هذه الفنون والمجالات، إلى جانب دفاعها المشهود له عن الإنسان، دفع البعض إلى تسميتها «المتمردة». هي بدورها توافق على هذه الصفة. تقول إنها اكتسبت التمرد من جدّتها. «كانت جدّتي تعزف على البيانو، وتعرف الكثير عن الألوان، إلى جانب إجادتها اللغتين الفرنسية والإيطالية». أدخلتها جدتها عالم الفن. علّمتها العزف، وشرحت لها عن معاني الألوان وتأثيرها، قبل أن ترحل وتتركها في «مجتمع أبوي». «كانت تلك فاجعة أثّرت فيّ طويلاً. رحلت جدّتي، لكنها تركت فيّ صفة التمرّد على الأبوية». ربما لم تعلمها الجدة الكتابة كما علمتها العزف والفن التشكيلي. «بدأت الكتابة في سن متأخرة» تقول، قبل أن تشاركنا خياراتها في القراءة: «أحب الشكل التجريبي لدى صنع الله إبراهيم، كما أحب لغة محمد مستجاب. أما يوسف إدريس، فلا أستطيع وصفه سوى بالأستاذ».



5 تواريخ

1976
ولدت في القاهرة

2000
تخرّجت في كلية الطب في «جامعة عين شمس» بصفة طبيبة نفسية

2007
صدر لها كتابان عن دار «ميريت» في القاهرة: بحثها «ما وراء التعذيب»، ومجموعتها القصصية «علشان ربّنا يسهّل»

2011
رفضت إحالة الناشط السياسي مايكل نبيل على مستشفى الأمراض العقلية وأصدرت بياناً يدين ذلك

2012
صدور الطبعة الثانية من كتابها «إغراء السلطة المطلقة» لدى مشروع «مكتبة الأسرة»، بعد عام من صدور الطبعة الأولى لدى «دار الصفصافة» في القاهرة