يوظّف مازن عرفة (1955) في روايته «وصَايا الغبار» (دار التكوين/ دمشق) السخرية، وسيلةً لمواجهة العسف والقهر الذي يجتاح الإنسان في العالم المعاصر. تتسرّب إلى نصّ الكاتب والباحث السوري، الكثير من المفارقات الواقعيّة. تنهض العوالم الماورائيّة بيوميات بطله. إلى جانب الأحلام والخيالات والاستيهامات، يرسم عالمه تبعاً لتصوّرات يلهج بها راويه الكليّ العلم. يتسلم هذا الراوي زمام السرد المنفلش، في تداعٍ حرّ يكاد يصبح فوضويّاً، تبعاً للذرائع التي يحاول تقديمها في سعي إلى إضفاء جوانب ملحميّة على روايته ذات الأجواء الغرائبيّة في الكثير من فصولها. يرجع البطل الحالم المتوهّم من الغربة، حالماً بامرأة مختلفة، امرأة تختصر النساء جميعاً. يستذكر نساءً كثيرات مررن في حياته: «إلهام، جورجيت، رولا، سهام، هند، سهير، تالة». يتخيّلهنّ عشيقات يمارس معهنّ كلّ نزواته وجنونه.
يجمعهنّ في صورة منشودة، هي صورة امرأة/ حلم غير موجودة. يحصل على وظيفة دائرة ثقافيّة، ليصير شاهداً على الكثير من جرائم الفساد. يتصاعد السرد ليكون الجسد الأنثويّ سيّداً في الفصول الأولى، ويتراجع تالياً، ثمّ يعود إلى الصدارة في الفصول الختاميّة بحلل مغايرة، مصوّراً التغيّرات التي تطرأ بفعل الزمن. تدور أحداث الرواية بين بلدة تدعى المُذرة والعاصمة، وتبدأ في نهاية الستينيات وما واكبها من حصار للإيديولوجيات السياسية المتصارعة، وصولاً إلى الزمن المعاصر الرازح تحت وطأة الأزمات المصيرية الخانقة. يروي الكاتب كيفيّة التحوّل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، أو العكس، ويروي كيف يتخلّى المرء عن كلّ شيء من أجل ما يظنّه لحاقاً بركب الحداثة والمعاصرة والعولمة.
يحضر في الرواية نوع من الهجاء الساخر لكثير من العادات والتقاليد، وقيم العولمة بوصفها جنّة متخيّلة. يبلغ الهجاء ذروته عند تصوير النزاع بين بعض المتاجرين باسم الدين (الشيخ حسني، الشيخة حسنيّة...)، وتعرية السلطة الأمنية (أبو رعد، أبو أحمد...)، وفضح الفساد الإداري. في العوالم الماورائيّة، يجد البطل حقيقته، زاعماً أنّها الأساس الذي يقود العالم الواقعيّ.
يمكن قراءة «وصايا الغبار» كحلم خارج التقييد والتأطير، حلم هارب من عالمه، عالق بين الوهم والواقع، يفتح مسارب الذاكرة. ورغم ذاتيّة نصّه الطافحة، نجح عرفة في تصوير خبايا السياسة وألاعيبها، والاستخبارات ووسائلها القذرة في تحطيم المجتمع وتفتيته تحت زعم المحافظة على وحدته. بحثاً عن المعنى، يسوح البطل بين الوديان والجبال، فيصادق الرعاة ويحكي تفاصيل عن حيواتهم، وينقل أساطير الفلّاحين. يستعين بالذاكرة الطفوليّة في سعيه لتصوير الاختلال الحاصل والتقهقر الكارثيّ نحو الحمائيات البدائيّة.
يردّد البطل أزمة البحث عن ذات العيون العسليّة، والبحث عن المطر المنشود. كأنّ هذه الكلمات أشبه بشيفرات وألغاز، يلقي بها في المتن المنفتح على التأويل، لتكون بؤراً متنقّلة بين الفصول. وينشأ من رغبة التغيير المتعاظمة التي تتآكل الشخصيّة، التغيير الحتميّ الذي لا مناص منه.
يصنع مازن عرفة حكاياته كأنّها وصيّة. وحين يعنون روايته «وصايا الغبار» ينبّه إلى ضرورة ألا تظلّ الوصايا هباءً منثوراً، بل الالتفات إليها لتكون المحرّض على التغيير مهما بلغت تداعياته خطورة وجنوناً.