يتوغّل أدونيس هذه المرّة في تراث النثر العربي القديم، مستكشفاً منابعه الأولى. يحرث في أرضٍ شاسعة، لطالما اختبر تضاريسها من جهات متعددة من دون أن يغادر موقع الشاعر في التقاط العبارة المضيئة والخاطفة ليضعها في مقامٍ آخر. سِفر ضخم، و«عقد فريد» معاصر يضعه بين أيدينا في أربعة مجلدات تحت عنوان «ديوان النثر العربي» (دار بدايات ــــ دمشق) على غرار «ديوان الشعر العربي» الذي أنجزه في ثلاثة أجزاء (1964ـــ 1986). هكذا، يتجوّل صاحب «هذا هو اسمي» في قارة شبه مجهولة، منقّباً عن كنوزها، على هدى إشارة جدّنا الأكبر النفّري «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة» تارةً، ومسترشداً بما قاله الكندي طوراً «أحسن الكلام ما كان صفو العقل من ناحية المعنى، وعفو الطبع من جهة التأليف، فيجتمع فيه صواب المراد وحلاوة الإيراد».
يضعنا أدونيس أمام مئات النصوص النادرة والنفيسة والمهملة التي تضاهي في بهائها جمالية الشعر لجهة ألق الصورة وقوة المعنى. بهذا المنحى، فإن إطلاق اسم «ديوان» على هذه المختارات لا يأتي من خارج الشعرية، بقدر ما يعزز حضورها في تاريخ الكتابة العربية، وردم المسافة بين ما هو شفوي وما هو مكتوب، بقصد إنهاء فكرة النموذج وربطها عضوياً بالتجربة.
هذا العمل «شهادة على غنى التراث النثريّ العربيّ، وعلى تنوّعه وعلوّه، جمالياً ولغوياً». كما ينطوي على ثقافة مركّبة، وصفها الجاحظ بأنها «ثقافة الأذهان اللطيفة، والتدابير العجيبة، والعلوم الغريبة».
يصعب اقتفاء أثر كل الأسماء التي أوردها أدونيس في «ديوانه النثري». عدا الجاحظ، والتوحيدي، والمعرّي، وغيلان الدمشقي، وأكثم بن صيفي، والفراهيدي، والتيفاشي، سنلتقي فقهاء وخطباء، وخلفاء، وحكّاماً، وعلماء، ومتصوّفة، يتناوبون الحكمة والموقف والأمثال في سوق عكاظ آخرَ مزدحم. ليس المفرد بصيغة الجمع ما يبتغيه صاحب «الثابت والمتحوّل» فحسب، بل إعادة النظر في كنوز التراث لجهة الإضافة البلاغية، وابتكار «شعرية الظلّ» في بناء العبارة ومقاصدها الجمالية. لا يتوقف جهد أدونيس هنا عند التصنيف، أو النصوص المضيّعة، أو الأسماء المجهولة، بل يستدرج طبقات علم الكلام، والموروث النثري في تراكمه النوعي عبر أبرز مصادره التاريخية واللغوية والنقدية. يختزل عشرات الرفوف في المكتبة التراثية العربية في رفٍّ واحد. هكذا، يتجاور ابن كثير، والطبري، وابن خلدون، وابن المقفع، والثعالبي، والجاحظ، والأصبهاني، وآخرون في فضاء مشترك، وإن تعددت أساليب كلٍّ منهم. تحتكم هذه الشذرات والإشراقات ذائقة فردية متوثّبة، تتطلّع أولاً، إلى نبرة حداثية، تطيح مفهوم تجنيس الكتابة، وتحديدها بين نثرٍ وشعر، متكئة على طاقة اللغة وحدها. في هذا السياق، يشير أدونيس باطمئنان إلى «الفتوحات المكيّة»، و«الإشارات الإلهية» لابن عربي مثلاً، بوصفهما نصوصاً ما فوق شعرية. وينبّه إلى أن ما أنجزه هنا، ليس نهاية المطاف في نبش مخزون النثر العربي الضخم والعظيم. هو يدعو إلى قراءات أخرى من زوايا مختلفة لترميم ما فاته، أو ما خالف مراياه، ذلك أنه سعى في اختياراته إلى تأصيل مفهوم الكتابة النوعيّة التي «ترتاد مناطق مجهولة في عوالم معروفة»، وتنهض على بُنى مبتكرة، و«مزج تكويني غير مألوف».
يتوقف طويلاً عند «النثر الصوفي» ليخصّص له مجلدين من أصل أربعة، معتبراً إياها ذروة الشعرية العربية، بعيداً عن الأحكام الشائعة التي قيّدت هذه النصوص الاستثنائية بمفاهيم إيديولوجية من خارجها. التصوّف، كما يراه صاحب «الصوفية والسوريالية» حركة تضع أصحابها في «حالة انعتاق كامل على جميع المستويات»، و«نظام قائم على رفض مبدأ السلطة، وكل مثال أو نموذج مُسبّقٍ جاهز. إنه مناخ معرفيّ لهدم سلطة الخارج وبناء سلطة القلب».
الحماسة الأدونيسية لنصوص المتصوّفة تذهب أبعد من ذلك، حين يضعها في مقام الينابيع الأولى للشعرية العربية، و«انفجار لغوي داخل الكتابة العربية، وكيمياء تجعل من النثر فضاءً مفتوحاً بلا نهاية على مجهول الأشياء والأشكال». سنكتشف هنا أسماءً غير متداولة تتجاوز المئة، إذ اعتدنا تداول حفنة أسماء مثل الحلّاج والبسطامي، والنفّري، وابن عربي. لكن ماذا بخصوص النهرجوري، وإبراهيم الخواص، ورويم بن أحمد البغدادي، وعشرات سواهم؟ لعل النزعة الانتقائية، والنظرة العجلى للتراث العربي، أقصت نصوصاً وتجارب مهمة تحت سطوة لافتة الحداثة العرجاء. هذا المرجع الضخم إجابة حاسمة عن حداثة عربية أُهملت طويلاً.