ليس من قبيل المصادفة أن يلجأ إبراهيم أصلان إلى كتابة «الشيفرة» وتقطير الكتابة إلى الحدود القصوى. عامل التلغراف القديم أتى ببلاغة «البرقية» إلى الكتابة، ولم يحد عن الاختزال والكثافة، منذ تجاربه المبكرة، فباتت نصوصه علامة مسجّلة تخصُّ صاحبها وحده. ليس الاقتصاد اللغوي فقط ما يميّز كتابات صاحب «وردية ليل»، بل الالتقاطة الصارمة للمشهد الذي يعبره الآخرون دونما اهتمام. كان يلتقط كنوزاً ممّا يراه سواه «نفايات الحياة اليومية»، أو مشهديات ما قبل الكتابة. هكذا يقلّب المادة الأولية بموشور متعدّد الأطياف، عبر الكتابة والمحو، إلى أن يجد جهة البريق، وإذا بنا إزاء شخصيات، وأمكنة، ومواقف، يصعب تخيّل ثرائها الحياتي، قبل أن يصطادها صاحب «مالك الحزين» بكمينه المحكم. على الأرجح، فإنّ أصلان كان يدرك بإمعان معنى عبارة «العالم يبدأ من عتبة بيتي». وجد في إمبابة، الحي القاهري الشعبي الذي نشأ فيه وأهداه أروع شخصياته القصصية والروائية، فضاءً سردياً لا ينضب، في تناوبٍ آسر بين هامشية حضور هذه الشخصيات وفاعليتها من جهةٍ، وقدرتها على صناعة الحلم من جهةٍ ثانية.
هذا النحت المتواصل للعبارة، لجهة الدقّة في الوصف، ونبش داخليات شخصياته، واختزال المسافة بين المحكي والمكتوب، وضع صاحب «عصافير النيل» في منطقة الدهشة والفانتازيا والابتكار، في تقنيات الكتابة نفسها. سنلحظ تحولاً تقنياً متواتراً في أعماله. هو بدأ قاصّاً، ثم روائياً، وانتهى إلى ما سمّاه «نصوصاً سردية»، كما في «خلوة الغلبان»، و«شيء من هذا القبيل»، وأخيراً «حجرتان وصالة» التي عنونها بـ«متتالية منزلية». انتقاله إلى العيش من حي إمبابة الصاخب إلى شقة في المقطّم، انعكس على حجم فتحة العدسة، فانكبّ على اكتشاف جمالية المكان الضيّق. شخصيّات لا تغادر أمكنتها المغلقة، إلا نادراً، وهي حين تغادر لطارئ ما، تجد حياة موازية على سلّم البناية، أو في زقاق معتم. أبواب مغلقة، وأخرى مفتوحة، نحو مشفى، أو عيادة للطب النفسي، أو صيدلية. حيوات تضيق بأرواح أصحابها، في لحظة ما قبل الاختناق، ونفاد الهواء..