أتخيّل أحياناً أن إبراهيم أصلان ساعي بريد، تتدلّى على جنبه حقيبة فيها برقيّات ورسائل. أراه يتنقّل بالبدلة الكاكي والقبعة، بين الأزقّة التي عاش فيها وكتبها. يدقّ على الأبواب ويمدّ المظروف الأسمر، ثم يعرّج على أحد تلك المقاهي التي أكلت من عمره، وصارت مسرحاً لأدبه. لم أجرؤ يوماً على مفاتحته بهذه الصورة. كان دائماً يسارعنا بجمل مقتضبة، ساخرة ورقيقة، مؤطّرة بتلك الابتسامة التي تبدو على علاقة ما بشاربيه الكثيفين. كان حرَفيّاً بامتياز، تلغرافيّاً ومقلّاً، يأخذ وقته في النحت والصقل والتشذيب.
كتب ببساطة وعفويّة تقولان تعقيدات وأحزان واحتجاجات وصراعات. وقام نصّه على التقشّف اللفظي، واللغة العارية، والنكهة المحليّة. على المكان الذي يمثّل منبع السرد ومصبّه. على «اللقطة المكثّفة الموحية»، كما كان يسمّيها غالي شكري، وتقنيّة «المفارقة» الكامنة تحت السطح. هذا الكاتب الهامس «يرق ويخفت حتّى لا يكاد يبين، ويبتعد حتّى يبدو محايداً كل الحياد»، كما وصفه مرّة فاروق عبد القادر قبل أن يستدرك: «لكن قصصه تشي بوجهه الحقيقي». العمّ أصلان غلبان بين الغلابى. أما «خلوة الغلبان»، فهي بلدة ذلك «اليهودي المصري» الذي التقاه بشكل عابر في باريس، وبقي الاسم مقترناً لديه بعقدة ذنب، حتّى قرأ نبأ موته، وعرف أنّه عالم النفس والكاتب جاك حسّون. طعم الندم نفسه سيحضر بعد الآن، كلّما تذكّرنا إبراهيم أصلان.