باريس | لم يدُم شهر العسل الموعود بين الحكومة التونسية الجديدة ووسائل الإعلام. في خطوة مفاجئة تتعارض مع التزامات السلطة الجديدة في «احترام حرية الإعلام»، أصدرت الحكومة التي يرأسها الأمين العام لـ«حركة النهضة» الإسلامية حمادي الجبالي، أول من أمس، مرسوماً حكومياً بتعيين مدراء جدد على رأس جميع وسائل الإعلام التابعة للقطاع الرسمي.
ولم تقتصر المفاجأة على «الأسلوب الفوقي والانفرادي الذي جاءت به هذه التعيينات»، كما أشارت نقابة الصحافيين التونسيين، بل زاد من استياء الأوساط الإعلامية التونسية أن «من عُيِّنوا بموجب هذا المرسوم أغلبهم من رموز النظام المخلوع، الذين أُبعدوا بعد الثورة». وجاءت هذه التعيينات في وقت تزداد فيه المخاوف على حرية الصحافة في تونس، إذ عادت إلى الواجهة حملات الأبلسة المنادية بمقاضاة قناة «نسمة تي في». وتزامن ذلك مع تهديدات أطلقتها سمية الغنوشي، ابنة زعيم «حركة النهضة»، وتوعدت بمقاضاة صحيفة «المغرب» التونسية العريقة. وهي الصحيفة نفسها التي أُغلقت في الثمانينيات إثر دعوى مماثلة رفعتها ضدها عائلة الدكتاتور المخلوع زين العابدين بن علي!
ويخشى الإعلاميون أن السلطة الجديدة «تسعى إلى التضييق على الحريات لأنها تريد إعلاماً تابعاً يلمّع صورتها». وذكَّرت نقابة الصحافيين بأن الائتلاف الحاكم الجديد قد تعهّد دعم المساعي التي بدأت غداة الثورة من أجل «تطهير الإعلام العمومي التابع للدولة من رموز الفساد، وبقايا النظام السابق، ونبذ العقليات التسلطية التي كانت تتعامل مع هذا القطاع بوصفه إعلاماً خاضعاً للحكومة ويعمل كبوق دعائي لها».
وكانت الحكومة الجديدة قد وعدت غداة تشكيلها الشهر الماضي، بالتجاوب مع المطالب والرؤى التي تقدَّم بها العاملون في قطاع الإعلام الرسمي، من أجل «ترقية هذا القطاع لجعله مرفقاً عمومياً يسهم في تكريس استقلالية الصحافة ودورها كسلطة رابعة». وجدّد رئيس الحكومة حمادي الجبالي، هذا الالتزام أخيراً، في مقابلة مثيرة للجدل مع الصحافي في «الجزيرة» أحمد منصور (راجع الكادر).
ووصف رئيس «مركز تونس لحرية الصحافة»، محمود الذوّادي، هذه التعيينات بأنها «تنمّ عن رغبة (من قبل الحكومة) في إعادة إنتاج المشهد الإعلامي الذي كان قائماً قبل الثورة، الذي لم يُكرِّس غير الزيف واستِبلاه الشعب التونسي». وعبّرت رئيسة النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، نجيبة الحمروني، عن استياء النقابة من الأسلوب الفوقي والمتسلط الذي جرت به هذه التعيينات، إذ جاء القرار الحكومي «من دون استشارة الهياكل المهنية المختصة، وخصوصاً النقابة الوطنية على اعتبارها الهيكل الشرعي المنتخب والممثل للصحافيين التونسيين».
وما زاد من استياء الإعلاميين أن المسؤولين الجدد الذين جرى تعيينهم كانوا «خدماً طيّعين للنظام الاستبدادي السابق، وبعضهم ارتبط اسمه بملفات الفساد» وفقا لبيان النقابة. وأورد «مركز تونس لحرية الصحافة» في بيان شجب فيه «عودة رموز الفساد»، نماذج عن «الوجوه التجمعية» (نسبة إلى حزب «التجمع» المحظور الذي كان حاكماً في عهد بن علي) التي أُعيد تنصيبها على رأس مؤسسات الإعلام الحكومي. وعدّد البيان أسماء بعض العائدين إلى رئاسة القنوات الرسمية مثل محمد نجيب الورغي، الذي عُيِّن مديراً عاماً لمؤسسة «لا براس» و«هو نفسه المدير الذي كان يرأس إدارة صحيفة الحزب الحاكم السابق، وعُرف بولائه الشديد للنظام البائد». وأشار المركز أيضاً إلى الصادق بوعبان، الذي عُيِّن مديراً للقناة التلفزيونية الوطنيّة الأولى، الذي «كان محلّ ثقة النظام البائد لسنوات، حيث عيّنه بن علي مديراً لقناة «تونس 7»». والشيء ذاته يُقال عن عدنان خذر، الذي عُيّن مديراً عامّاً لكل قنوات التلفزيون الرسمي، ووصفه المركز بأنه كان «مهندس الحملة الانتخابية للدكتاتور عام 2009». وأثار تعيين سعيد الخزامي مديراً لقطاع الأخبار في التلفزيون الوطني التونسي استنكار نقابة الصحافيين. ولم يأت ذلك اعتراضاً عليه شخصياً. لكن النقابة استنكرت أن يصل الأمر بالحكومة إلى حد التدخل في تعيين رؤساء التحرير ومدراء الأخبار في وسائل الإعلام الرسمية، وذلك ما لم يحدث حتى أيام بورقيبة وبن علي، حسب النقابة.
وفور إعلان التعيينات، انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي تعليقات تقول: مبروك اللحية يا تجمّع! في إشارة ساخرة إلى أن «حركة النهضة» التي تحظى بالأغلبية في الحكومة والمجلس التأسيسي، لم تتجرأ على تعيين شخصيات إعلامية من صفوفها، خشية ردود فعل الوسط الإعلامي، وفضلت أسلوباً موارباً لإحكام قبضتها على الإعلام من خلال الاستعانة بإعلاميين من «حزب التجمع» المحظور، للاستفادة من خبراتهم الطويلة في تزييف الحقائق وتمليع صورة الحُكام!



تنظّم النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين إعتصاماً في ساحة القصبة عند العاشرة من صباح اليوم (بتوقيت تونس) إحتجاجاً على تعيين مدراء جدد لوسائل الإعلام الحكومية.





zoom

أحمد منصور... تحريض «بلا حدود»؟




في الحلقة ما قبل الأخيرة من برنامج «بلا حدود» (28 كانون الأول/ ديسمبر) على قناة «الجزيرة»، استقبل الإعلامي أحمد منصور رئيس الحكومة التونسية، حمادي الجبالي (الصورة) في مقابلة مثيرة للجدل. واستنكر الإعلاميون في تونس «اللهجة التحريضية» التي تحدث بها الإعلامي المصري المعروف بتوجهاته الإخوانية، إذ خاطب الجبالي بنبرة استنكارية، قائلاً: «حتى التلفزة الرسمية في الدولة (...) تتجاوزك كرئيس للدولة (...) في الوقت الذي كان هذا الإعلام يهلل ويجلّل للرئيس السابق ولغيره»! وأجاب الجبالي: «هناك خلل حاصل في الإعلام، وخصوصاً الإعلام الحكومي. إلا أننا لن نعالج الخطأ بالخطأ، بل سنعالجه بمزيد من الديموقراطية والشفافية والاستقلالية»، لكن أحمد منصور قاطعه، ليواصل باللهجة التحريضية ذاتها: «إذا كان الشعب اختار حكومة، والإعلام ضد هذه الحكومة، فقل لي الإعلام بأيدي من؟». وردّ الجبالي بلهجة مطمئنة: «الحل ليس في أن نهيمن على الإعلام. لن نصلح الخطأ بالخطأ. الأصح أن نبحث عن استقلالية الإعلام كمؤسسة (يقصد كسلطة) رابعة في حياة ديموقراطية...». كذلك تطرّقت المقابلة إلى ملفات أخرى، منها تعاطي الحكومة مع رجال الأعمال الذين كانوا يتمتّعون بنفوذ كبير أيام الحكم البائد، وغيرها من المواضيع...
ورغم تطمينات الجبالي، إلا أن المقطع الذي تحدّث فيه عن الإعلام في مقابلته مع أحمد منصور انتشر بسرعة على الشبكة العنكبوتية، وتحديداً على المواقع الإسلامية التونسية للمطالبة بإنهاء الهيمنة الإعلامية لـ«جماعة صفر فاصل»، وهي تسمية ساخرة باتت تُطلق على النُخب اليسارية في تونس، للتدليل على ضعف شعبيتها. وهي تسمية تذكِّر بالدكتاتور المخلوع بن علي، الذي كان يصف النخب اليسارية ذاتها بـ «الشرذمة الضالة»! ولا شك أن تلك الحملات أسهمت في التعيينات الأخيرة، التي تتنافى مع الموقف المتفتح الذي عبّر عنه الجبالي في هذه المقابلة التلفزيونية.