الخرائط ليست بالضرورة كائنات مجرّدة من العاطفة... التنك، والإسمنت، والمطاط، عناصر من مخطوطة وجدانيّة صاغها مروان رشماوي (1964) على مهل في معرضه الحالي «مناظر طبيعيّة» الذي تستضيفه «غاليري صفير ـــ زملر» حتى 24 آذار (مارس) المقبل. يعدّ رشماوي واحداً من أبرز وجوه جيله في ميدان الفنون البصريّة العربيّة المعاصرة. خلال عقدين من العمل والاكتشاف بين بيروت ولندن وبرشلونة وعمان، خطَّ الفنان اللبناني لنفسه لغةً واقعية في فنّ التجهيز، مستخدماً أدوات علم المساحة، والهندسة، والتخطيط المديني.

خصص جهده لدراسة وتأمل الديناميات الحضريّة كما في «نصب للأحياء» (أو مشروع لبرج المرّ/ 2000)، و«الطيف» (أو عمارة يعقوبيان في وسط بيروت/ 2008). علاقة البناء بالبشر والتاريخ والسياسة والذاكرة، مثلت مادّة خصبةً لشغله. قَوْلب الإسمنت بوصفه مسكناً ورمزاً وشاهداً، مستخدماً موادّ صارت بصمته الخاصّة، ومنها القطران، والمعادن الطريّة، والزجاج، وخصوصاً المطاط... استخدم المادّة السوداء في عمله الأبرز «بيروت كاوتشوك» (2004 ــ 2006؛ 500×400×2 سنتم)، حيث أنجز خارطة مطاطيّة عملاقة للعاصمة، حفر فيها خطوطاً تقسّمها إلى شوراع وأحياء.
في «مناظر طبيعيّة»، يستكمل صنعته الأثيرة في رسم الخرائط، مستعيراً أدوات العمارة والتنظيم المديني. في الجزء الأوّل من معرضه، يُنشئ «فلسطين افتراضيّة»، مرتكزاً إلى خرائط هاوية رسمها لاجئون فلسطينيون لمخيّمات شاتيلا، ونهر البارد وغيرها. حصل رشماوي على الخرائط من «ورشة الموارد العربيّة»، وهي منظّمة غير حكوميّة، طلبت من سكان تلك المخيّمات رسم خرائط لمحيطهم المحلّي. بواسة مواد مختلفة منها الحبر الصيني، والأكريليك، قام الفنان بنسخ الخرائط «البدائيّة» على أكياس الأرز والسكر، وعلى ألواح من الإسمنت، وعلى خلفيّات من المعدن المموّج، أو الخشب... وكلّها أشياء مرتبطة على نحو وثيق بحياة مخيّمات اللجوء اليوميّة، ومحمّلة برمزيّات التهميش والإفقار والعزل والتهجير والمنفى. بعض الأعمال التي التقطها رشماوي مرسومة على أوراق دفاتر مدرسيّة بأقلام أطفال المخيّم، نشاهدها هنا بقياس مضخّم. نشاهد عصافير، وشمساً، والمدرسة، والبيت، ومقهى الإنترنت... في الرسوم التي وقّعتها النساء ملحمة، وصيدليّة، وفرن. وفي خرائط أخرى مقبرة الشهداء، ودور العبادة، و«إبريز المياه»، ومكاتب الفصائل السياسيّة. تمثيلات اللاجئين للمسكن، بوصفه فضاءً غير نهائي للعيش، ومنزلاً موقّتاً، تطفو إلى السطح بكامل شحنتها الفكريّة والسياسيّة. المواد الباردة والمحايدة تتحوّل إلى عناصر شجيّة، بموازاة رمزيّة الخريطة المعروفة في سياق القضيّة الفلسطينيّة.

تندرج تجربة رشماوي ضمن ممارسة فنيّة معاصرة تتخذ من الخريطة غرضاً فيتيشياً، كما في أعمال الأميركية جويس كوزلوف (1946)، والأرجنتيني غيلرمو كويتكا (1961). في هذا الإطار، تبتعد مناظر رشماوي الطبيعية عن أيّ صيغة تزيينيّة. تكسب رهانها المفهومي منذ لحظة الاختيار: انتقاء خرائط رسمها لاجئون لإعادة رسمها بنسخ كبيرة، والاشتغال عليها كمادة فنيّة، وعرضها فوق الإسمنت والتنك. هل يمكننا القول إنّ هذه استعارة بصريّة لأدب «الواقعيّة السحريّة»؟ يكفي أن نقف أمام تلك الخريطة الكبيرة الصفراء، لنتخيّل الأطفال يركضون في شوارع المخيّم، والعجائز جالسات أمام عتباتهنّ، لنستشفّ طاقة العمل الإيحائيّة.
ترافقنا طاقة مماثلة إلى الجزء الثاني من المعرض، يضاف إليها شيء من القشعريرة. تحت عنوان «أغراض مكتشفة»، يخوض الفنان أمامنا لعبته الغريبة مع أغراض الموت. يعلّق على جدران «صفير ــ زملر» مخلّفات لقنابل عنقوديّة، جُمعت بعد حرب تموز 2006. مستخدماً تقنيات الطباعة والتقطيع على المطاط، يحوّل أشكال الذخائر القاتلة إلى مجسّمات سوداء، يبعثرها في المكان... لك أن تتخيّل توظيفات أخرى لتلك الأشكال المطاطيّة السوداء، قد لا تكون قنابل بل رؤوس باذنجان، أو حبّات كوسى، أو أنابيب أحمر شفاه، أو قوارير عطر. إخراج الشظيّة من سياقها، وتحويلها إلى غرض فنّي، شكل من أشكال الضحك في وجه الخطر، ونوع من أنواع التحدّي ربّما، لكنّ هذا التأويل السياسي، ليس إلا خلفيّة مبطنة لعمل أولويّته لعبة ذكيّة على المادّة، تأخذ فيها السخرية السوداء المساحة الأبرز. هذا ما يظهر جلياً في استخدام الفنان بعض الشظايا الحقيقيّة في لوحاته، أو رسمه لمجسّمات بعضها على ألومينيوم، بواسطة الإيناميل. يطبعها هنا كأنّها حبّات ياقوت، أو أحجار كريمة وجدها في منجم استحدثته اليونيفيل في أراضي القرى الجنوبيّة. يعزِّز هذا الانطباع رسمٌ ضخم لجنديين أممين على الجدار المقابل، وهما يمارسان مهمّتهما في تنظيف التراب من مخلّفات العدوان.



مروان رشماوي، «مناظر طبيعيّة»: حتى 24 آذار (مارس) المقبل ــ «غاليري صفير ــ زملر» (الكرنتينا/ بيروت).
للاستعلام: 01/566550