في كل عام، يقف راقصو «بايبود» في مواجهة تحدٍّ ما، يكون عادة إحدى مفاجآت بيروت المجانية. وفيما لم ينجُ «مهرجان بيروت للرقص المعاصر» العام الماضي من تردي الأوضاع الاقتصادية، وإلغاء بعض العروض العربية، حافظ المهرجان البيروتي على استمراريته. والليلة، تنطلق الدورة الثانية عشرة من «بايبود» بعنوان «الأجساد والحراك» في محاكاة للتحركات التي شغلت العالم العربي في السنوات الخمس الماضية، آخرها الحراك اللبناني الذي انتهى ولما تزل رائحة النفايات تجتاح بيروت. عنوان الدورة الحالية الذي يسعى أكثر إلى توريط المهرجان في أسئلتنا اليومية السياسية والثقافية، كما قالت مديرته الفنانة ميا حبيس، أعاد هذه السنة العروض العربية التي غابت كلياً عن برنامج العام الماضي. من فلسطين وتونس ولبنان، تشارك فرق وتجارب جديدة، إلى جانب أبرز العروض العالمية والوجوه المهمة؛ بدءاً من أحد أشهر الكوريغراف البريطانيين أكرم خان الذي زار المهرجان قبل سنوات، والألماني رايموند هوغ والإيطالي أليساندرو سياروني و«فرقة كولبرغ» السويدية. 15 عرضاً هي حصيلة البرنامج الضخم، التي تجمع الرقص المعاصر المينيمالي، والعروض المشحونة بالفنون المسرحية والأداء وألعاب الخفة، والتراث وفنون الرقص التقليدية.
تستضيف هذه الدورة استثنائياً النسخة الخامسة من «ملتقى ليمون» (راجع الكادر) الذي كان يقام كل عامين بين رام الله وبيروت وعمان، ودمشق. كل هذا البرنامج الضخم الذي يستمر حتى 30 نيسان (أبريل) في «مسرح المدينة» (الحمرا ــ بيروت) و«مسرح بيريت» (طريق الشام ــ بيروت)، يترافق مع ورشات عمل وإقامات فنية ولقاءات بين مديري مهرجانات عالمية وثلة من مصممي الرقص من مختلف أنحاء العالم (راجع الكادر).
بعدما قدّمه أخيراً في فيينا، ثم فرنسا، يفتتح عرض «بيتنا» (13 و14 و15/4) لعمر راجح المهرجان عند الثامنة والنصف من مساء اليوم في «مسرح المدينة». كما ينتظر الغداء اللبناني المدعوين ظهيرة الأحد، دعا راجح مصممي رقص من توغو واليابان وبلجيكا وفرقة «تريو جبران» الموسيقية الفلسطينية إلى مائدته. «بيتنا» هو ثمرة إقامة فنية بين المصممين الأربعة في ضيعة عمر راجح، أمضوها في الطبخ والرقص. إلى جانب راجح، سيشارك التوغولي أناني سانوفي، والبلجيكي كوين أوغستنجين، والياباني هيراوكي أوميدا حول طاولة الغداء اللبنانية، مع والدة عمر راجح، على موسيقى «الثلاثي جبران» الحية على المسرح، حيث سيتبادل الراقصون الأكل والشراب والضحك... والرقص. انطلق راجح من الأكل لما يحمله من إرث ثقافي ليطرح سؤاله: كيف يمكن الحفاظ على الطبخة حين تختلط المكونات (الثقافية)؟ هكذا يأخذنا المصممون إلى ما يشبه الفيوجن الراقص حيث اللقاء بين الأساليب الفنية والخلفيات الثقافية المتنوعة.
15 عرضاً تجمع الرقص المينيمالي، والعروض المشحونة بالفنون المسرحية والأداء وألعاب الخفة والتراث

جاد تانك الآتي من نيويورك يشارك بـ«الحرية أبداً» (15/4). وكما في عرضه «اصنعني» الذي تناول العلاقة الاجتماعية الغربية ــ العربية، يدمج عمله الجديد بين فنون العرض والأداء والمسرح والرقص، والسياسة التي درسها في «جامعة كولورادو» إلى جانب الرقص. يسائل «الحرية أبداً» (30 د) الذي يؤديه تانك منفرداً، مفهوم الحرية وحاجتنا الدائمة إليها، إذ لا يعود البحث عنها يرتبط بالأحداث السياسية الآنية أو الانفعالية فحسب، بل يصبح أشبه بدوّامة بحث أبدية ترتبط بالوجود الإنساني. من إيران تشارك فرقة «ماها» (تأسست في طهران عام 2013) بعرض «زعفران» (16/4 ـــ 40 د) الذي يعدّ ثمرة تعاون بينها وبين فرقة «مقامات» اللبنانية. عام 2015، دعي عمر راجح إلى طهران للتعاون مع الفرقة في إنجاز عرضها الأول، في ظل الظروف الصعبة التي يعانيها هذا الفن في إيران حيث أصبح الرقص أشبه بطوق نجاة بالنسبة إلى الفنانين. على سجادة عجمية هي رمزية للتراث الفارسي وماضيه، تقدم ميترا ضياي ومصطفى شاب خان عرضاً (كوريغرافيا عمر راجح) حول مفهوم التضحية المتجذر في عدد كبير من الثقافات الشرقية والغربية. من إيطاليا، نشاهد عرض «من دون عنوان ــ سأكون هناك حين تموت» (28/4) لأليساندرو سياروني. من الفنون البصرية وفنون الأداء، انتقل الكوريغراف الإيطالي إلى الرقص المعاصر. عام 2014، قدّم «من دون عنوان» للمرة الأولى في «بينالي الرقص» في ليون الفرنسية. وهو الجزء الثاني من ثلاثية بحثية راقصة حول الصراع والثبات والمقاومة بعنوان «هل ستبقى تحبني غداً؟». «من دون عنوان» يركّز على مرور الوقت، وكيفية التعامل مع الأشياء ببراعة من خلال فنون الخفة (juggling) وعروض السيرك. الحركات المكررة للمؤدين الأربعة في رمي الأدوات والتقاطها هي طريق سياروني في سعيه إلى اختبار قدرة الجسد الفيزيائية على تكرار الحركات نفسها، وخصوصاً إذا تدخّلت الجاذبية في ذلك، إذ يستحيل هنا تفادي العثرات. يقدّم سياروني طرحاً خاصاً لألعاب الخفة التي ترتبط حصراً بالتسلية، ليشبّه حالة لاعب الخفة بالتأمل، وخصوصاً أنه لا مجال لتدخل التفكير الخارجي المتعلّق بالماضي أو المستقبل. سيكون هذا باباً آخر لسياروني للانخراط في لعبة أخطر: لعبة الزمن.
في المهرجان، موعدان مميزان مع فرقة «كولبرغ» السويدية التي تأسست عام 1967 بعرضين هما «عودة الرقص الحديث» و«ضد التيار» (20 و21/ 4). هناك سؤال وجودي في عالم الرقص هو الذي يقود عرض «عودة الرقص الحديث» للمصمم الأميركي تراجال هاريل: ما هي العلاقة بين الراقص والمتفرج؟ هل نظرات المتفرج هي التي تتحكم بحركات الراقص أم العكس؟ من هنا ينطلق العرض الذي يؤديه 6 شباب تنساب حركاتهم لتسائل الجسد أيضاً بوصفه خزاناً للرغبات والخوف والمشاعر الأخرى. في «ضد التيار» لكريستيان دوارتي، يأخذنا الكوريغراف البرازيلي إلى رحلة داخل الذاكرة أو الأرشيف الحسي للراقص. عمل دوارتي في السابق على فكرة تدريب الراقصين تاريخياً، الفكرة التي لا تبدو بعيدة عن عرضه «ضد التيار» الذي يقسم إلى أربعة أجزاء يقدم كل منها راقصة أو راقص منفرداً، ويسعى دوارتي من خلالها إلى استثارة ذاكرة الراقص الجسدية والحسية وعلاقتها بأدائه الحاضر. يجمع «الوقت يأخذ الوقت الذي يأخذه الوقت» (17/4) الكوريغرافيين: الإسبانية ماريا كامبوس واللبناني غي نادر اللذين أطلقا فرقتهما في برشلونة عام 2006. قدم العرض في بيروت عام 2014، ضمن مهرجان co2. حوار ديناميكي فيزيائي هو الذي يشغل جسدي الراقصين طوال العرض الشاعري الذي صممته كامبوس. الحركات، وتنقلات الراقصين السريعة تشحنها الصدمات العديدة لتصبح حركاتهما لامتناهية في دوامة الوقت. هذا التمرين الفيزيائي والبصري والإيقاعي السمعي، يسعى إلى اكتشاف المكان بوصفه جزءاً من الصوت والحركة.
في السنوات الماضية، اقتصرت المشاركات اللبنانية على عروض ضئيلة معظمها من تصميم «مقامات». لكن هذه السنة، يفتح المهرجان أبوابه أمام تجارب لبنانية مختلفة وأخرى جديدة. «يداي تكبرانني سناً» (17 و18/4) هو عنوان العرض الذي صممته دانيا حمود، وتؤديه إلى جانب خلود ياسين ومنذر بعلبكي. درست الكوريغراف اللبنانية المسرح في بيروت، ثم الرقص في فرنسا، وشاركت في تأسيس «فرقة زقاق» اللبنانية حيث عملت حتى عام 2014. من البديهي أن تكون الحركات كتلة من التشنجات والتوترات الجسدية، في منطقة تحكمها حالة تأهب دائمة، كذلك هو الإيقاع الجسدي المكرر والعنيف في «يداي تكبرانني سناً» الذي يعد جزءاً من مشروع بحثي راقص تعمل عليه حمود انطلاقاً من سؤال «ماذا يحدث للجسم قبل وبعد فعل القتل؟». من لبنان أيضاً، نشاهد «ملامح الغياب» (16/4) للشابة غيدا حشيشو، الذي اختاره غي نادر (بناءً على طلب مؤسس المهرجان عمر راجح) للمشاركة في المهرجان. متكئة على خلفيتها في الهندسة المعمارية، تذهب حشيشو في عرضها الجديد نحو تغيير المفاهيم عند اللقاء بين المكان والجسد المتحرك. هنا تصبح المساحة الهندسية أداء خالصاً وتتحول الحركة إلى مساحة جديدة. العرض متعدد الوسائط (فيديو ــ تجهيز...) تؤديه منفردة غيدا حشيشو على المسرح بعدما قدمته في بيروت العام الماضي، لتسائل الذاكرة والعزلة والوقت، حيث محاولات الجسد الإمساك باللامدرك في تواصل الحركة. من فلسطين، يقدم شرف دار زايد عرضه الجديد «لنكون...» (15/4). يمزج المصمم الفلسطيني خلفيته في الدبكة والفنون الشعبية، والرقص المعاصر، ليقدّم منفرداً على الخشبة (30 د)، عرضاً يدور حول الصراع بين التقليد والحداثة... وكيفية الوصول إلى الحرية. محطة عربية أخرى في المهرجان هي عرض «أمطار جانبية» الذي هو إحدى ثمرات «ملتقى ليمون». 15 راقصاً لبنانياً وعربياً يعملون مع «فرقة الياس» السويسرية، يقدّمون «أمطار جانبية» الذي صممه الكوريغراف غييرمو بوتيلو، بعد إقامتهم الفنية في «مقامات بيت الرقص» (الشوف)، على أن يقدّموه لاحقاً في مهرجاني عمّان ورام الله للرقص المعاصر.
يحاكي «الربيع المقدس» لعايشة مبارك وحفيظ ضو باليه «الربيع المقدّس» (16/4) لسترافينسكي. لكن ربيع الثنائي سياسي بامتياز: يصوّر عرضهما الذي أنجزاه ضمن فرقة «شطحة» الربيع التونسي تحديداً. على وقع الموسيقى وصوت الفنانة التونسية سنية مبارك، تعكس حركات الراقصين على الخشبة حالتي التناقض والضعف اللذين تعيشهما تونس على درب التغيير. حركة الراقصين السريعة على المسرح ليست سوى الرغبة في البقاء على قيد الحياة وربما في الثورة لتحرير الثورة مجدداً، أمام عيون الشهداء الذين يقفون كرسوم بأحجام بشرية. أكثر العروض المنتظرة هو «كاش» (22 و23/4) لأهم مصممي الرقص البريطانيين أكرم خان. بعدما زارنا عام 2011، يعود الفنان البنغالي الأصل بعرض فرقته الأول «كاش» الذي قدّمه قبل 14 عاماً، واستعاده قبل شهر في لندن. بين فنون وتقاليد «الكاتاك» ولغة الرقص المعاصرة يراوح العرض على موسيقى نيتين ساوهاني. يدفع الراقصون الخمسة بالعرض إلى حدود الاستعارة والميتافيزيقيا بالاستناد إلى الفيزياء واللاهوت الهندي. أمام مربّع أسود على الجدار (آنيش كابور)، نشاهد حركات الدمار والانبعاث من جديد، يبدل الراقصون وقفاتهم، ثم يصطفون من جديد في ملايين الاحتمالات.
الختام مع أكثر الوجوه تفرّداً في المهرجان الألماني رايموند هوغ في عرض «رباعي» مساء 30 نيسان (أبريل). من الصحافة والكتابة، انتقل هوغ إلى العمل كدراماتورج مع الراقصة الألمانية الراحلة بينا باوش حتى عام 1989. حينها، بدأ بالعمل وحيداً على إصداراته المسرحية والراقصة بالتعاون مع عدد من الراقصين. على وقع مقطوعات تعود إلى حقبات معينة من شوبرت إلى هاندل وباخ، وصولاً إلى شارل أزنافور وداليدا، يدخل الكوريغراف بحذاء بكعب عال وهو يرمي الكرات على خشبة المسرح. بالوقع الخفيف نفسه، تدخل الراقصات الأربع بثياب سوداء، كل منهن مأخوذة بعالمها الخاص. على الخطوات الساحرة والمتناغمة والحركات المنسابة، تتواصل الرقصة على الخشبة لأكثر من ساعتين. العرض مليء بالعواطف والحنين. هو ليس إلا واحداً من أعمال هوغ التي يجمع فيها فنون المسرح الياباني، وفنون الأداء الأميركية والتعبيرية الألمانية واهتمامه بالمشاعر الإنسانية بين الاجتماعي والسياسي، لتأتي النتيجة مينيمالية.

«بايبود ــ 12»: ابتداء من الليلة حتى 30 نيسان (أبريل) ــ «مسرح المدينة» (الحمرا ــ بيروت) و«مسرح بيريت» (طريق الشام ــ بيروت). للاستعلام: 01/218040