بدءاً ببوش الأب والابن حتى أوباما، مروراً بمايكل جوردن وزين الدين زيدان، وجغرافيا تمتد من أميركا حتى العراق والخليج مروراً بالضواحي الفرنسية... تاريخ يعيد رسمه هايغ آيفازيان في معرضه Fugere (الهروب) في «غاليري صفير زملر» في هامبورغ. ينقسم المعرض إلى ثلاث غرف حيث تتوزع الأعمال بين منحوتات ومونتاج صور ورسم وفيديو. في الغرفة الأولى، يتكون العمل الأبرز من أربعة تماثيل برونزية صغيرة، ومرآة، ورخام، وفيديو. وفيما يرتفع تمثال لمايكل جوردن في شيكاغو، تم إنزال تمثال لصدام حسين في بغداد. لم يبق من الأخير سوى القاعدة وأقدام الرجل. تمثال أعاد آيفازيان صنعه بحجم مصغّر، وإلى جانبه تمثال آخر يظهر قاعدة تمثال جوردن من دون الأخير. إلى جانبه تمثال ثالث يظهر فردتي حذاء رياضي Air Jordan. صنع الأول عام ١٩٩٢، والثاني عام ٢٠٠٨. في المقابل، هناك تمثال رابع يجسّد يدي الصحافي العراقي منتظر الزيدي وهو يرمي الحذاء الأول ثم الثاني. في الغرفة ذاتها، مرآة على الحائط كتب عليها نص للزيدي: «إنهم يعلمون إن خرجت الشمس سوف يذوبون كتماثيل من الشمع، فحفاظاً على صلابتهم رغبوا في تمديد وجودهم في الظلّ».
على رخام قبالتها، نص آخر بالإنكليزية كُتب عند أسفل تمثال جوردن في شيكاغو هو: «في تلك اللحظة علمت، بكل تأكيد ووضوح، أنني كنت أشهد الكمال. وقف قبالتنا معلّقاً فوق الأرض، حرّ من جميع القوانين مثل عمل فنّي، وعلمت، بذات التأكيد والوضوح، أن الحياة ليست عملاً فنياً، وأن تلك اللحظة لا يمكنها أن تدوم». نصّ مأخوذ من فيلم لروبرت ريدفورد. وفي الزاوية، شاشة صغيرة تعرض فيلماً من يوتيوب يظهر جنوداً أميركيين في العراق يحاولون كسب مودة الأطفال عبر إهدائهم طابات كرة قدم.
في عمله هذا، يبلور آيفازيان بحثه الطويل الذي بدأه عام ٢٠٠٩، لينتج تلك التماثيل الأربعة وما يحيط بها. عمل يتخطى جمع المعلومات وسردها إلى اقتراح حوار بين لحظات تاريخية تطرح أسئلة حول قصة صعود وهبوط الأمم التي يفلت فيها الوقت من القياس. يتساءل آيفازيان في عمله إن كان الوقت الذي فصل بين رمي الحذاء الأول والحذاء الثاني، يساوي الوقت الذي فصل بين صنع Air Jordan عام ١٩٩٢، والثاني عام ٢٠٠٨؟ في ١٩٩٢، انتهت حرب الخليج الأولى، ومعها ولاية جورج بوش الأب. كما استقبلت برشلونة أول دورة ألعاب أولمبية بعد سقوط الإتحاد السوفياتي، وسمح للمرة الأولى بمشاركة لاعبين محترفين في لعبة كرة السلة. وقتها، ألفت أميركا «فريق الأحلام» مع مايكل جوردن وآخرين، مما أدى إلى فوز الفريق الأميركي بالميدالية الذهبية بفارق شاسع في المستوى نسبة إلى الفرق الأخرى المشاركة. سقوط الاتحاد السوفياتي، حرب الخليج الأولى، فوز «فريق الأحلام» الكاسح، تمثال لمايكل جوردن في شيكاغو، واتفاق سياسي مع صدام حسين في العراق. لكن كما يذكر النص على الرخام (علمت أن الحياة ليست عملاً فنياً، وأن تلك اللحظة لا يمكنها أن تدوم)، لم تفز أميركا بالميدالية الذهبية ثانية حتى عام ٢٠٠٨، مع فريق عرف بـ«فريق الترميم». ترميم شهد أيضاً تسليم بوش الرئاسة إلى أوباما. خلال تلك الفترة، تم اجتياح العراق، وهدم تمثال صدام حسين، ثم إعدامه. فترة شهدت تخبط أميركا في الشرق الأوسط، حتى عودة الميدالية الذهبية عام ٢٠٠٨ مع وصول أوباما إلى الرئاسة. في العام نفسه، ودّع الزيدي بوش بفردة حذائه الأولى «هذه قبلة الوداع من الشعب العراقي أيها الكلب»، وانتقم في الثانية «وهذه من الأرامل والأيتام والأشخاص الذين قتلتهم في العراق». الزمن الذي فصل بين رمي الفردة الأولى والثانية، نهضت فيه الأمة العربية ثم سقطت، لأنه كما قال الزيدي في النص على المرآة إنّ الزعماء العرب «رغبوا في تمديد وجودهم في الظلّ» في الفساد. مرآة ينعكس فيها تاريخ العرب في علاقتهم مع أميركا. وفي الزاوية على شاشة صغيرة، فيما كان الزعماء يتممون صفقات البترول، أرسل جنود أميركيون ليهدوا طابات لأطفال العراق.
في هذا العمل، تخطى آيفازيان فعل جمع المعلومات وتشبيكها إلى تحويلها أعمالاً فنية اتخذت أشكالاً مختلفة، تبقى شاهدة على تاريخ امتد منذ سقوط الاتحاد السوفياتي حتى اليوم. تاريخ تتوسع فيه أميركا وتثبت سيطرتها وتزرع تماثيل لمايكل جوردن في الساحات، لكنه تاريخ تتخلله ثغر زمنية تمتد من لحظة رمى فيها الزيدي الفردة الأولى حتى رميه الثانية. زمن قد يقاس بثوان أو بسنوات.
انطلاقاً من اهتمام آيفازيان بفضح العلاقة بين الرياضة والسلطة، رسم الإضاءة العملاقة التي تنصب في الملاعب الرياضية في أربع لوحات. الشركات الأمنية التي يوكل إليها حفظ أمن وإنارة الملاعب الرياضية، هي ذاتها التي توكل إليها السجون والمعتقلات. لذلك في اللوحات، لا نرى الحدث المضاء، بل تصبح الإضاءة هي المشهد بحد ذاته. معرض «صفير زملر» في هامبورغ، يصب في عمل متواصل انطلق عام ٢٠٠٩ تحت عنوان «الهروب (سلسلة من لحظات أوليمبية)». في بينالي الشارقة (٢٠٠٩)، قدم آيفازيان أول معرض من هذه السلسلة، ثم محاضرة أدائية بعنوان «ستّة دروس للرامي: مشروع كلينت ايستوود الـ12»

* Fugere لهايغ آيفازيان: حتى 5 كانون الثاني (يناير) ــ «غاليري صفير زملر»، هامبورغ، ألمانيا ــ
www.sfeir-semler.com




كم أنت عظيم يا ابن الصحراء

في الغرفة الثالثة من معرض «الهروب»، عرض هايغ آيفازيان الجزء الأول (٢٦ د.) من فيديو «كم أنت عظيم يا ابن الصحراء!» الذي ينوي تطويره مستقبلاً ليصبح فيلماً طويلاً. ينطلق هنا من حادثة نطح اللاعب الفرنسي زين الدين زيدان للاعب الإيطالي ماتيرازي ضمن نهائي «مونديال» ٢٠٠٦، قارئاً في فعل زيدان فعلاً يشبه تفجير السيارات أو إشعالها، مثلما فعل شباب الضواحي الفرنسية في ما عرف بأعمال شغب عام ٢٠٠٥. علماً أن زيدان أتى أيضاً من إحدى الضواحي الفرنسية، ولم تكن ردة فعله يومها إلا ثأراً لشرفه وكرامته إثر نعته بـ«ابن عاهرة إرهابية»، ومثلما ثأر الشباب الفرنسي لتعرضه للعنصرية ووصفه بالحثالة. كأنّ زيدان تحوّل في ذلك العفل من اللاعب الأغلى في فرنسا إلى رمز للرأسمالي التائب والثائر لكرامته ضد العنصرية. من زيدان، ينطلق هايغ آيفازيان إلى الحوادث التي عمت باريس والضواحي، ملقياً الضوء على تلك العلاقة الشائكة بين الشباب والشرطة، وأسئلة الهوية والعنصرية التي طرحتها تلك الأزمة في فرنسا.