مئة عام من العزلة
نضال الأشقر
كريستيان غازي من الشخصيات التي ما زالت راسخة بفنها وبمنحاها غير التقليدي، زيّن بيروت في فترة الستينيات. في هذه الحقبة عندما عدت من انكلترا، تعرّفت الى شخصية مختلفة جداً في عالم السينما والمسرح. وفي الفترة الأخيرة عندما كنت ألتقيه في شارع الحمرا، كنت أشعر بأنه كان يحمل بنفسه كل تلك الحقبة من هذه المدينة، كأنه يحمل مئة عام على ظهره. هو لا يشبه أحداً ولا أحد يستطيع تقويم موهبته وقصة الاختلاف التي تميز بها وانسجامه مع عصره. من المؤسف أنّ هذه الشخصية تغادرنا اليوم، فهي أشبه بأحد معلّق بين الماضي والحاضر. الماضي الجميل والواقع الصعب والعقيم.

كان أشبه بحلم مرّ بسرعة. كريستيان ليس قصة مزايا تمثيلية أو إخراجية أو أدبية فقط. عاش عصره بكل قوة داخلاً القرن العشرين. برحيله اليوم، يسودني حزن كبير في قلبي. لقد كان بمثابة آخر مقطع من حياتنا في تلك الحقبة. بموته، اختتم هذا العصر.

لم ينصفه الزمن

جلال خوري
صعدنا على المسرح للمرة الأولى معاً في مسرحية «في انتظار غودو» الذي كان إخراجه عملاً جماعياً، وعرض وقتها في «مدرسة الآداب العليا». تعرّفت اليه في زمن الخمسينيات وربطتنا صداقة قوية وكنت قريباً جداً من عائلته وبيئته. لم ينصفه الزمن بالقدر اللازم وأغلب أعماله طواها المجهول. أفتقده صديقاً والصداقة قيمة ثمينة. لم تكن حياته مستقرة بل ملأى بالمآسي. هو من القليلين الذين يكتبون الشعر بالفرنسية، وهذا جانب لا يعرفه الكثيرون، إضافةً الى غنائه الأوبرالي. كان لي المساهمة في نشر أحد كتيباته الشعرية في أواخر الخمسينيات. هذا الجانب الأدبي في رأيي أهم من كونه سينمائياً ومسرحياً. كان شعره رؤيوياً بامتياز، وخارج نطاق المنطق رغم صعوبة قدرته الفعلية على التعبير وقتذاك.


وداعاً أيها الطفل

رضوان حمزة وأحمد علي الزين

من حجرةٍ ضيقة، يسلّط الضوء على مساحة من تاريخ لبنان، وكنا في ورشةِ نزهةٍ سمّاها يعقوب يومها ريفيّة، واشتعل مسرح البيكاديللي بالأضواء. كنا لا نعرفه جيداً، قال يعقوب، إنه كريستيان غازي وربما عرف الشدراوي أبعاد نزهته الريفية، فأراد من السينمائي أن يحرك له ضوء الخشبة المسرحية. غنيٌ هذا الرجل، مرهف، شفاف، صلب، وساخرٌ في آن معاً. ذاكرةٌ خصبة لكنها حجبت عن الضوء، لأن صاحبها اختار منذ بداية تفتحه على الحياة، الطريق التي تحملُ ندرة الرجال الذين يدركون معنى الحياة.
نوّع وسلك الدروب الصعبة في المعرفة وفي علاقتها بالحرية، بالإنسان، بالأرض بالعدالة. كان مبدعاً، إن في مشهده السينمائي أو في قصائده الشعرية أو في تكويناته السينوغرافية وفي إدراكه للفن الموسيقي الدرامي. قلة هم الذين يعرفون تاريخ كريستيان غازي، وربما أيضاً قلة هم الذين يعرفونه. منذ البدء كان منحازاً للحقيقة ولقول الأمور كما ينبغي أن تُقال.
كريستيان غازي كان يخبئ أحزانه خلف ضحكةٍ مرة، ترى هل مادونا غازي وحدها هي التي سببت هذا، أم أن تاريخ هذه الأمة بانكساراتها جعله إنساناً معرضاً للحزن الدائم وإن ارتسمت على ملامح وجهه اشارات ضحك؟ السينمائي، والشاعر والفدائي والطفل، سيظلّ يلعب ويحلم...
تحيةً لك كريستيان، ما من أحد الآن سيسرق حُلمك كما سرقت أعمالك وحرقت. بريق عينيك الصغيرتين وهالة الابتسامة المرة في وجهك تطارد الغيم... وداعاً.