ليس ثمة حضور واضح للحرب السوريّة في رواية «رقصة الظل الأخيرة» المتوافرة في جناح «دار الساقي» ضمن «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب». جميع خيوط رواية الكاتب السوري رامي طويل (1974) تجري ما قبل العاصفة. لكن بإمكان القارئ بسهولة تلمّس الوطأة الثقيلة لهذا الصمت الذي يسبق الزلزال.تفترق «رقصة الظل الأخيرة» عن الروايات السوريّة التي صدرت في الأعوام الثلاثة الماضية في كونها فضّلت رسم ملامح الكارثة قبل الانفجار.

ولعل هذا الأمر يُحسب لرامي طويل الذي بدا ـــ بسرده الهادئ ـــ بعيداً عن ضجة احتفاء سوق النشر بكل ما هو سوري في العامين الماضيين بشكل خاص. ولكن ثمة عبارات في الرواية تشي بأنّ تاريخ الكتابة هو تاريخ الأحداث ذاته: أي الفترة بين عامي 2004 ـــ 2010، أو جزء منها. وهي إحدى أغنى المراحل السوريّة بالأحداث إذا استثنينا سنوات الثمانينيات المرعبة، وسنوات الانتفاضة/ الحرب الأخيرة.
وعلى رغم تفضيل الكاتب الابتعاد عن إدراج روايته القصيرة ضمن جوقة «روايات الانتفاضة السورية»، إلا أنها تتلاقى مع معظم الروايات السوريّة التي تكاد تتشابه بأبطالها المثقفين المنكسرين، ونسائها المغويات، والسرد الفج للسياسة والجنس. وهي سمة سيطرت على معظم النتاج الروائيّ السوريّ منذ الستينيات حتى نهاية التسعينيات، قبل أن تشهد عودة أخرى (أكثر وضوحاً وأقل جودة) بعد عام 2010.
ليس ثمة حضور كبير للتجريب في رواية رامي طويل، برغم عمله كسيناريست تلفزيونيّ، كأنه أراد إبقاء هذا الفصل بين فضاءي عمله. ولم ينجُ من هذه القطيعة، ربما، سوى الشخصية ـــ الظل مراد الساحليّ «رجل العتمة» التي كسرت رتابة السرد في السطور الافتتاحية للرواية، لتعاود الظهور بأسلوب سينمائيّ مذهل في نهاية الرواية كخلفية للمشهد الرتيب.
ثمة ملاحظة أخرى تُحيل شخصيات الرواية إلى «أسلافها» في الستينيات، وهي صفة «البطل الفرد» الذي لا نجد حضوراً للعائلة في حياته. هو «دون كيخوته» معاصر، أو عشبة بريّة أخرى في أرض سوريا، ينتمي إليها ويكرهها في آن. ونكاد لا نلاحظ ذلك الفارق بين شخصيات كل من الشاعر الشاب وليد، أو الشاعر المكرَّس خليل (وهو شخصية «فوتو كوبي» تتكرر في معظم الروايات السورية)، أو الرسام يوسف. ولا «يشذ» عن هذا التوصيف سوى شخصية طبيب التجميل سليم عواد، الثري المثليّ الشبق، وشخصية زوجته ماريا التي تبدو مثل عقدة تتلاقى عندها جميع شخصيات الرواية بلا استثناء. هي المرأة ـــ الحلم أحياناً، والمرأة ـــ الذكرى أحياناً أخرى، والمرأة ـــ المنقذة دوماً، امرأة البدايات الجديدة لها ولعشّاقها.
شخصيات مشوّهة تتلاقى على أرض غريبة، بإمكان القارئ ببساطة اكتشاف أنها سوريا في أواسط ونهاية العقد الأول من الألفيّة الثالثة. السُّلطة التي بدأت تصفّي حساباتها مع معارضيها بعدما استطاعت التقاط أنفاسها، والمشهد الثقافي الذي لا يبتعد كثيراً عن كونه مستنقعاً يعجّ بالعفن، فيما ثمة رحى أخرى تطحن الجميع بقسوة. كان يمكن الاستغناء عن الحضور المباشر للسياسة ببساطة، والانغماس في تجذير التجليات المتعددة والمتناقضة للشخصيات التي يمكنها أن تعبّر سياسياً من دون حضور الكاتب. تكفينا تفاصيل مشهد متحف المدينة الساحلية منذ التحضير لإنشائه، وصولاً إلى تدميره ونصب تمثال الرئيس على بوابته، لتختصر اللوعة المتشظية في أنحاء الرواية؛ من آلام شجرة الزنزلخت عند قطعها (بل وقبل ذلك، حين كانت منصة للتعذيب والقتل)، والحضور الشفيف للنادل الأرمني زافين، والأمطار التي بدأت بالتحول التدريجي إلى مياه آسنة، وصولاً إلى الشوارع التي ناءت بالضجيج.
«رقصة الظل الأخيرة» هي رواية التفاصيل بامتياز. تفاصيل منمنمة تجتمع لتشكّل مشهد الأحداث. وتتبدّى هذه الطريقة (الجديدة نسبياً في الرواية السورية) في الصفحات الأخيرة التي تكاد تختصر سنوات الهدوء الثقيل تلك، وشخصية مراد الساحليّ بشكل خاص. تختزل الحياة القصيرة (واقعياً وروائياً) لمراد كل ما مضى، وتمهّد للزلزال الآتي. اعتقال، ثم إقصاء من الأهل والأصدقاء، وانتهاء بنسف الحلم الأنثويّ الذي تراقص للحظات أمامه (في شخصية ماريا) قبل تلاشيه، ثم كان الانتحار. حياة بأكملها تمضي أمام أعين الجميع من دون أن ينتبهوا إليها، وليس ثمة شاهد سوى اللهب الأخير لسيجارته قبل انطفائها... لهب يبدو مثل التماعة أخرى لفلاش كاميرا ماريا قبل أن تضمّ الصورة إلى أرشيف الماضي في ذلك المتحف الذي دُمّر قبل انطلاقه، كإشارة عابرة إلى الدمار القادم.