لم تخضع تجربة نقولا الحداد (1872_1954) لدراسة حديثة. يكاد العصر الحالي يبتلعه مع أقرانه الشوامّ الذين أسهموا في نهضة مصر منذ القرن التاسع عشر، حتى أوائل القرن الماضي. من هنا انطلقت سلمى مرشاق سليم في دراستها «نقولا الحداد _ الأديب العالِم» التي صدرت أخيراً عن «دار الجديد». هذا الاهتمام ليس جديداً على الباحثة اللبنانية، بل يعود إلى أطروحة الماجستير التي قدّمتها عام 1973 عن هجرة الشوام إلى مصر. وبعدما اختارت الأديب اللبناني إبراهيم المصري مادّة لدراستها «إبراهيم المصري _ رائد القصة النفسية» (دار الجديد) عام 2007، اختارت نقولا الحداد أخيراً. وبذلك تتابع الخط الذي رسمته لمشروعها التوثيقي لأعلام بلاد الشام ممن برزوا في الحياة الثقافية المصرية الحبلى بالأفكار التقدّمية آنذاك. نقولا الحداد، الصيدلي والأديب اللبناني، واحد من أولئك الرواد. ولد في جون (الشوف) عام 1872 وتوفي عام 1954.
وبين هذين التاريخين، تجربة فريدة وشاملة في العلوم والآداب، نبشتها سلمى مرشاق سليم في أربعة فصول («سيرة نقولا الحدّاد من مصادرها»، و«نقولا الحداد عبر كتبه»، و«ومقالات نقولا الحداد في صحافة عصره»، و«نقولا الحداد شاعراً»). في الفصل الأول، حاولت سليم أن ترسم بورتريهاً لنقولا الحداد، وتحدد ملامحه وأبرز محطّات حياته. هنا استعانت بالسيرة الذاتية التي كتبها في مجلة «الإصلاح» (كانت تصدر في الأرجنتين)، وتشتمل على المراحل التقليدية في حياته (الولادة، والتعليم، والسفر، والعمل). بعدما أنهى تحصيله العلمي في «مدرسة الأميركان» (صيدا)، التحق بـ«الجامعة الأميركية في بيروت»، قبل أن ينقطع عن الدراسة لثلاث سنوات سافر خلالها إلى مصر، ثم عاد إلى بيروت ليحصل على شهادة الصيدلة عام 1902. وسافر بعدها إلى مصر ثم أميركا مع خطيبته روز أنطون، وشقيقها الصحافي فرح أنطون وهناك أصدروا مجلة «الجامعة». لكن الفشل الذي جوبهوا به أعادهم إلى مصر، لتكون هي نقطة الانطلاق الفعلية لنقولا الحداد، حيث افتتح «صيدلية الحداد» في حي شُبرا، وواصل التأليف والكتابة.
هذه السيرة وسّعتها الباحثة في اعتمادها على الكتب والدراسات الفكرية، والشعرية والأدبية المتشعّبة التي تناولت حياته وأفكاره. وإن كانت هذه السير متباعدة، وقد ركّز كل منها على حقل من اهتمامه، إلا أن الكاتبة جمعت ولخّصت ما استطاعت الوصول إليه لتركّب شخصيته الكاملة. وهذا أسلوب ستتبعه في جميع فصول الكتاب اللاحقة، ما يمنح الدراسة طابعاً أكاديمياً بحتاً، من دون اللجوء إلى الانطباعات الشخصية أو الميل إلى منح الرجل أهميته الطليعية عبر مقاربة أفكاره مع القضايا الراهنة.
كتب نقولا الحداد القصة القصيرة والرواية، والأبحاث الفلسفية، والعلمية، والمقالات عن الفكر الاشتراكي، ما جعله أحد رواد هذا الفكر في العالم العربي. في الفصل الثاني، تتفرّغ سليم لمؤلّفات نقولا الحداد، وتجري مسحاً شاملاً على إرثه. وهذا أكثر ما يمكنه أن يوفي الحداد حقّه ربّما في ظل غياب كتبه عن معظم المكتبات. قسّمت سليم العمل إلى عنوانين رئيسيين: واحد للروايات والقصص، وآخر للكتب العلمية. وتتفرّع منهما مجموعة من المواضيع التي كتب فيها. تتسم معظم قصصه بالمواضيع الاجتماعية التي خاض عبرها قضايا المرأة، والتفاوت الطبقي. حلّلت الباحثة هذه القصص، وأوجزتها، فيما أرفقتها بمجموعة وثائق تصور بعض أغلفة الكتب وأسمائها في المجلات. لم يُعنَ الحداد بالشأن الأدبي بقدر ما استخدمه كوسيلة لخدمة أفكاره الاشتراكية والاجتماعية، والسياسية. وفي ما يخص الكتب العلمية، كتب في العلوم الإنسانية والعلوم البحتة، أهمها نظرية النسبية لأينشتاين، وعلم الذرة. لا ينحصر القسم الثالث برصد المقالات التي كتبها الحداد في المجلات، بل تشتمل على توثيق لهذه المجلات ومؤسسيها: «الهلال»، و«الضياء»، و«المقتطف»، و«الإصلاح»، و«الأديب»، و«الرسالة»، و«العلوم»، و«السيدات والرجال». تأخذنا الكاتبة إلى ذلك الجو المصري النوستالجي عبر المجلات التي نشر فيها الحداد مقالاته، بدءاً من عام 1893، لتأتي بخلاصات لأفكار الحداد المطابقة لمواضيع مؤلّفاته. وإن تنوّعت أفكار مقالته، إلا أنها تميل إلى السياسة والاقتصاد. دافع عن القضية الفلسطينية، ونشر مقالات عن الاشتراكية، التي ترجم فيها العديد من الأفكار الأميركية والبريطانية.
في «نقولا الحداد شاعراً»، تعود بنا سليم إلى سنوات الحداد في الجامعة منذ أن بدأ بنظم الشعر. تنجز في هذا الفصل تأريخاً لأشعاره وفهرسة لقصائده (سنوات كتابتها، وأماكن نشرها)، كأنها توثّق هذا الإرث الضائع. لكن الباحثة لم تخضع قصائده لدراسة نقدية، بل وضعتها في سياقها الزمني، ولخّصت الثيمات. لقد وظّف نقولا الحداد معظم أنواع الكتابة، لخدمة أفكاره واهتماماته التاريخية والعاطفية والعلمية، حتى في الشعر.