في دورته الخامسة في «مركز بيروت للفن»، يقدّم «عتبات» أعمالاً معاصرة لفنانين لبنانيين أو يقيمون في لبنان. من أبرز هذه الأعمال «حياة ممكنة ومتخيلة» لياسمين عيد الصباغ وروزين كيري. تجهيز يسرد قصة جوسلين، وفريدا، وستيلا وغرازييلا، أربع نساء قويات ومشاكسات، أخوات من جنسية فلسطينية لبنانية عشن خلال القرن العشرين، ونفيت كل واحدة إلى مكان مختلف: بيروت، القاهرة، باريس ونيويورك. داخل غرفة مظلمة، ألقي الضوء على صور علِّقت ضمن إطارات صغيرة و«فينتيج» على الحائط.
في العمق، نرى آلتين لشرائح الصور تلقيان على الحائط القريب أمامهما صوراً نستنتج أنها تعود إلى النسوة الأربع في صباهن. أما الشريط الصوتي، فيتوزّع على مكبرات الصوت الأربعة في الغرفة، ويتخلله سرد لحيوات النساء بصوتهن، مع بعض المقاطع الموسيقية. يتميز «حياة ممكنة ومتخيلة» بأنه يخلق عالماً سردياً توزعت عناصره داخل غرفة العرض لتعود وتترابط في خيال المشاهد على طريقته. صور جامدة وأخرى متحركة وشريط صوتي... عناصر ثلاثة مفصولة بعضها عن بعض، لكنها تلتقي عند المشاهد/ المستمع. لعل «حياة ممكنة ومتخيلة» أفضل ما يطرح تلك العلاقة المتساوية بين الصوت والصورة في الأعمال الفنية. القصة السردية المرتكزة على الوقائع والممزوجة بالخيال تلقى صداها في زواية الغرفة، وتتخذ أشكالاً عدة من الصورة الثابتة إلى المتحركة فالصوت، حتى فضاء الغرفة المظلم يتحول إلى عوالم تسكنه قصص الشخصيات الأربع. في أحد الحوارات، تقول إحدى النساء الأربع وهي تنظر إلى صورة فوتوغرافية: «لا لم أكن في ذلك العرس، ولا حتى أبي ولا أختي. تلك ليست ذكريات. إنه توليف». تلك الجملة تختصر عمل ياسمين عيد الصباغ وروزين كيري. صحيح أنّهما لجأتا إلى أرشيف وقصص قديمة، لكن عبر هذا الطرح التوليفي. لم تسردا ذكريات، بل خلقتا عوالم جديدة أصبحت ملك المشاهد/ المستمع.
في غرفة ثانية، تعرض رندا ميرزا مجموعة بورتريهات بعنوان «حول الجنس والجندر». في صورها الفوتوغرافية، مزجت ميرزا أجساداً عارية ليكتسب كل بورتريه جسداً جديداً يمتزج فيه الذكر والأنثى. ما يميز عمل الفنانة هو نجاحها في خلق أجساد تفرض ذاتها على المشاهد بحضور يتخطى التحديد التنميطي للمساحة بين الجنس والجندر. تختلط المساحتان هنا. إنّها دعوة لرؤية أجسادنا من معايير مختلفة. سؤال الهوية الجنسية يتخذ أشكالاً وأبعاداً مختلفة. على أحد جدران الغرفة، تركت رندا ثقباً يمكنك أن تختلس منه النظر إلى امرأتين مستلقيتين عاريتين على كنبة في غرفة جلوس.
أما مهى قيس، فتعرض فيديو «كأنها برلين». لقطتان لتفصيل في الشارع، ثم تثبت الكاميرا أمام نافذة، وستارة تتطاير مع الهواء. خيال امرأة يظهر على الستارة، ثم يحاول الاختفاء، لكنه يبقى عالقاً برهة قبل أن ينسحب كلياً. صفارة إنذار تدوّي في أرجاء المدينة. «ما زالت صفارات الإنذار تدوّي في أرجاء مدينة باريس مرة كل شهر عند الظهر لمدة دقيقة ونصف، مطلقةً الصوت نفسه الذي كان يدوّي خلال الحرب العالمية الثانية للتحذير من الخطر». أما المخرجة فتسرد نصاً بصوتها عن رجل ينتظر من يقفل القبر عليه. في فيديو قيس، عناصر قليلة بسيطة تجتمع لتخلق مساحة كارثية. مساحة بليغة في وصف الكارثة من دون ذكرها، ترسم زمن نهاية معلقة لا يحين فيها موعد النهاية.
من جهتها، تحتفي شيرين أبو شقرا بجسدها حيث ظهر السرطان الخبيث، وحيث اكتشفت الحياة والموت وقضت على المرض. عبر تجهيز من شاشتين كبيرتين متقابلتين، وأخرى صغيرة على الجدار الثالث المغطى برقعة قماش شفافة يعرض عليها فيديو رابع، تقدم الفنانة اللبنانية عملها الطقسي «ما لي فتنت بخبثك الفتاك». إنها أشبه بدعوة إلى رحلة في جسدها الذي حولته إلى معبد. تجدها واقفة عارية كتمثال إلهي، تقصّ شعرها بيديها، وتضعه أمامها قرباناً للحياة والموت. فوق فعل التضحية ذاك، يتمايل الفيديو على القماش الشفاف مضيفاً هشاشة على جبروت ازدواجية الموت والحياة.
أما وائل قديح في Lost and Found فيعرض جهاز كومبيوتر عليه مخزون من الحلمات التي أزيلت عن صدور نساء عرضن صورهن عاريات على مواقع التواصل الاجتماعي. بإمكان المشاهد أن يقلب الصفحات على الكومبيوتر ليلج إلى مخزون ضخم من أرشيف الحلمات مع بعض المعلومات مثل العمر والجنس والعنوان. تجهيز يحيلنا إلى مواضيع شائكة شغلت الرأي العام أخيراً مثل تظاهرات النساء العاريات من أجل قضايا سياسية واجتماعية معينة، والسياسات المتبعة من قبل مواقع التواصل الاجتماعي كفايسبوك وخصوصية الصور المنتشرة عليها وملكيتها، بالإضافة إلى مخزون المعلومات عن مستخدمي الإنترنت الذي يُجمع لأغراض استخبارية أو لإعادة طرحه في السوق كسلعة تجارية. مواضيع أثارت وما زالت الكثير من النقاش، يطرحها قديح عبر تجهيزه خارج إطارها النمطي ضمن قالب سريالي قد لا يكون أبداً بعيداً عن الحقيقة.

«عتبات»: حتى 11 كانون الثاني (يناير) المقبل ـــ «مركز بيروت للفن» ــ للاستعلام: 01/397018



لجنة التحكيم

اختارت اللجنة التحكيمية في «عتبات» هذا العام 14 فناناً من بين مئة طلب، ما جعل «عتبات 2013» الأكبر دفعة حتى يومنا هذا، وفق «مركز بيروت للفن» الذي يحتضن المعرض. تألفت اللجنة هذه السنة من: غريغوري بوشاكيان، فارس شلبي، طارق أبو الفتوح، رانيا ستيفان وصوت واحد من «مركز بيروت للفن». وككل عام، تنوّعت الأعمال المقدمة في «عتبات» في استخدامها لوسائط وأشكال مختلفة. وكأيّ معرض قائم على دعوة مفتوحة، تأتي النتيجة متفاوتة في النوعية.



موسم الهجرة إلى الشمال



شهدت الساحة الفنية المعاصرة اللبنانية أخيراً بروز جيل جديد يحاول أن يطرح أفكاره ووسائله الخاصة، في حوار مع من سبقه، أو بعيداً جداً عنه. أما «مركز بيروت للفن» فيلعب عبر معرض «عتبات» دوراً مهماً وفريداً في اكتشاف فنانين صاعدين (لبنانيين بشكل أساسي)، وتأمين مساحة العرض لهم، وتعريف الجمهور بتجاربهم.
معرض «عتبات» قائم على دعوة مفتوحة للفنانين الصاعدين، بينما يتم اختيار الفنانين المشاركين في كل دورة من خلال لجنة مستقلة تتغير كل عام، من دون أن ننسى فرصة العرض لمدة شهر ونصف في أحد أهم فضاءات الفنون المعاصرة في لبنان. وبذلك، فإنّ «عتبات» يقدم نوعاً ما صورة عن الإنتاج الفني المعاصر الشبابي في لبنان، ولكن ملاحظة استوقفت المركز هذا العام، واختتم بها مقدمة كاتالوغ «عتبات ٢٠١٣» بالجملة الآتية: «ومن باب الصدفة يعيش عدد كبير من الفنانين المشاركين خارج لبنان».
ملاحظةٌ تجد صدقيّتها في أن 10 فنانين من أصل 14 وُلدوا وأقاموا أو انتقلوا للعيش أخيراً خارج لبنان. ملاحظة على بساطتها تفتح الباب أمام بعض التساؤلات التي لا بد من التوقف عندها.
أولاً، إن جولة سريعة على بيوغرافيا الفنانين المشاركين في «عتبات ٢٠١٣» تظهر أن عدداً كبيراً منهم، وخصوصاً المقيمين خارج لبنان، شاركوا سابقاً في معارض جماعية ومنفردة في لبنان كما في عواصم ثقافية مرموقة حول العالم، ما يطرح سؤالاً حول حاجتهم فعلاً إلى عتبة لدخول المكعب الأبيض. وهل على اللجنة التحكيمية مستقبلاً أن تخاطر أكثر في تقديم العتبة لفنانين لبنانيين شباب لم يسمح لهم المعدّون الفنيون ولا الغاليريات بفرصة لتقديم أعمالهم حتى في بلدهم؟ أما السؤال الثاني والأهم: لماذا أصبح معظم الفنانين الصاعدين الشباب اللبنانيين مقيمين خارج البلد؟ قد يكون لذلك أسباب كثيرة؛ منها سوء الوضع الأمني والاقتصادي، وعدم توافر الدراسات الفنية العليا في لبنان.
الأسباب غير مهمة هنا، بل النتيجة. وهنا لا نقصد طبعاً التمسك السطحي بأرض الوطن أو أي من شعارات وزارة الداخلية ومديرية الجيش التي تتحفنا بها على لافتات إعلانية تغمر الطرقات، لكننا أمام واقع يفتح الباب على احتمالات جديدة، منها كيفية تطور علاقة الفن المعاصر بالجمهور اللبناني، وبمواضيع محلية ينظر إليها من الخارج، وانحصار تفاعله مع مساحات ومؤسسات تؤمن تلك الصلة بين الخارج والداخل. قد لا تكون تلك الحالة جديدة، فمعظم فناني الجيل السابق الذين أصبحوا خارج لبنان اليوم كانوا قد انطلقوا من بيئتهم المحلية إلى الخارج، فهل نشهد حالة معاكسة حالياً؟ لسنا نحكم بإيجابية أو سلبية على تلك الحالة، لكن من المهم التوقف عندها، ومناقشتها، وخصوصاً في ظل الشرخ الموجود بين الفن المعاصر وجمهوره اللبناني الذي يكاد يقتصر على الفنانين أنفسهم وبعض المهتمين القلائل. فهل تسهم هذه المسافة بين الجمهور والفنانين في تكريس مسافة أكبر مع أعمالهم؟
روي ...