في مديح اليأس، لعلها العبارة الأكثر التصاقاً بتجربة نزيه أبو عفش (1946 ـ الصورة). لكنّه يعاجلنا بالقول بأنّ ما يكتبه هو «صوت ألم الإنسان، وأمله الذي هو يأس مقلوب». سنذهب معه صاغرين إلى حقول الجحيم، وننصت إلى نعيق الغربان في حقول عباد الشمس. الحقول التي كانت بلاداً، قبل المذبحة بقليل. هكذا سيحتل الرقم 13 في دورات «جائزة العويس الثقافية» (عن فئة الشعر مع المصري محمد إبراهيم أبو سنة)، كأن ما حدث فخ مبيّت، في طريق الشاعر المتشائم كي ينال حصته من التكريم. ذلك أنّ صاحب «انجيل الأعمى» واحد من قليلين «خلقوا سيميائية خاصة نوّعت قصيدته ومنحتها سمات من أهمها الدهشة والغرابة» وفقاً للجنة تحكيم الجائزة أمس.
لن نستعيد هنا التضاريس التي حرثتها قصيدة هذا الشاعر الساخط، في فحص طبقات الألم البشري. سنجد على تخوم هذه السوداوية، زهوراً مارقة تتفتح ببسالة، وسط مستنقعات العفن، و«فضيلة صناعة الموت».
يقول في بيان شعري مبكر «أعترف إذاً، بحياء وتواضع شديدين، أنني أنتمي إلى جنس حزين من الشعراء لا يزال يؤمن أن القصيدة لا يمكن أن تنهض خارج فضاء العواطف النبيلة، والحواس اليقظة المدرَّبة - ربما بالفطرة - على التقاط النأمات الخافتة والسرية لقلب الإنسان»، ويضيف «ثمة خيط غامض لا يزال يربطني بأساليب الشعراء والزجّالين الأوائل الذين لم يكونوا يعرفون عن الشعر غير أنه توثيق بالصورة والصوت لنبض القلب الإنساني، ونسمةُ حنان كريمةٌ تهبّ من الضمير على صحراء العالم». تتمحور نصوص نزيه أبو عفش، بين الحلم والكابوس، تقتفي أثر ما هو مخبوء في الظل، لتفحص اللامرئي وتعيد الهواء للكائنات الضالة، من الجندب إلى الغزال، كأن مهمة الشاعر هي إعادة البراءة إلى حقلها الأول، قبل أن تسحقها الأقدام الثقيلة، لقناعة أكيدة يجهر بها بقوله «كتاب حياتنا مليء بالأخطاء المطبعيّة، لأننا نحن الذين صنعناه، وليس الله». وإذا بمشاغله الشعرية اللاحقة تذهب إلى فضح أسباب هذه الأخطاء، من دون حيل تقنية، أو إسراف في البلاغة، و«الحداثة العمياء». قرابين النبي الأعزل، تشغل جدراناً كثيرة، في تفسير معنى الندم، وقدرة هشاشة الكائن على مقاومة العنف والهلاك والافتراس بفضائل مضادة، يرى أنها من صميم عمل الشاعر. كان نزيه أبو عفش قد شبّه ذات مرّة، عمل الشاعر بعمل الحدّاد، وكيفية تحويل الحديد إلى منجل أو حدوة حصان، لعل هذا ما كان يفعله على الدوام.