في كتاب «الموتى الفرعوني»، يذهب الموتى إلى قبورهم باطمئنان استعداداً لحياة أخرى، لكن جيهان عمر (1972) تقع في فخ الموت بغتة في «أن تسير خلف المرآة» (دار العين- القاهرة)، حين يصطاد رفيق عمرها المصوّر هاني الجويلي في حادثة سيارة، فيما تنجو هي «بأعجوبة». تدرك على مهل أنّ الفقدان خسارة نهائية. هكذا تستدرج روح الغائب إلى مصيدتها، من موقعٍ آخر، حين تستعيد كل لحظة مشتركة بينهما، وتؤثث الغياب بمفردات مضادة، كأنها ترغب في إعادة ترتيب «مسرح الجريمة» كي تدرك هول فجيعة الوحدة، في المسافة الفاصلة بين الظلام والصمت.
ليس ما تكتبه هذه الشاعرة المصرية مرثية لرفيق عمرها، بقدر ما هو أرشفة لعجلة حياة تعطلت في منتصف المسافة. تسعى إلى تعويض خسائرها باقتفاء أثر الغائب بالعدسة نفسها، لتوثيق «المشهد الختامي» لعبثية الموت. لا تلتفت عمر إلى ما تحتاج إليه القصيدة لجهة البلاغة، بل تنهمك في توصيف المشهد كما حدث، وتظهيره بكامل عطره السري، حين يتحوّل الشرشف الأبيض إلى كفن، أو كما تقول «دعني أبحث في هذا الجيب القديم، ربما نسيت هناك أصابعك». الخزانة هنا، ليست مستودعاً للثياب فقط، بل خزانة للألم المعلّق على مشاجب الوحدة. وإذا بأغراض الشعر تذهب إلى مقاصد أخرى، لطالما كانت مهملة. خاتم الغائب الذي يحمل اسمها، سينطق بذكريات الأصابع التي كانت تقبض على الكاميرا لتظهير صورة للحظة خاطفة يصعب تكرارها بالدهشة نفسها. وهذا ما يقود مشهديات جيهان عمر إلى مناخات سرديات موازية، في التقاط البهجة الآفلة لتلك الذكريات التي لن تعود: «أدرّب صوتي على نطق اسمك، كي لا يبقى عالقاً بحبالي الصوتية كقطعة غسيل متروكة في الشرفة». لا تتوقف هذه الضربات الخاطفة على بناء موشور في محاورة الموت (أم مبارزته؟)، أو مرآة متشظيّة للفجيعة. هناك طبقة سردية أعمق في تظفير سينوغرافيا الغياب، بتأجيج روح الأشياء الصامتة، واستخلاص أثر الشريك في حركته الأخيرة قبل انطفائه، حيال زجاجة عطره، أو حصته في السرير، أو نظارته الطبيّة. وفي المقابل تبتكر حياةً افتراضية لتعويض مساحة الفقدان، وترويض فكرة الموت بأقصى حالات التقطير والكثافة والرغبة. هناك أيضاً تلك النبرة الفوتوغرافية في تثبيت المشهد، من دون أن يفقد صخبه الداخلي أو قدرته على الإيحاء بما كان عليه لحظة التقاطه، إذ يومض بملاحظات ملموسة، وإن بعدسة أخرى. لذلك تبدو إحالة الشاعرة على ريجيس دوبريه وكتابه «حياة الصورة وموتها» في إحدى قصائدها، ليست هامشاً سردياً عابراً، وإنما تكمن في متن إغواءات السرد المشهدي المتوتّر الذي اتكأت عليه صاحبة «أقدام خفيفة» في ترميم تكويناتها البصرية والشفوية. بهذا المعنى، لم تعد الصورة الملتقطة شأناً شخصياً، أو ألبوماً عائلياً مخبأً في الأدراج، فهي تقوم بتحرير الصورة أو إعادة تركيبها في الغرفة المظلمة وإعلانها على الملأ كي تتخفف من عبئها الفردي الثقيل، وتالياً منحها جرعة حياة متخيّلة تكفي لشخصين، أخلّ أحدهما بوعده أن يستعدا للموت معاً. تقول في تبرير أحوالها اللاحقة «ألعق وحدتي مثل كلب».