فيما كان الآخرون يتزاحمون حول موقد الربيع العربي، كفّ جورج طرابيشي، يدّه مبتعداً عن هذه الوليمة المسمومة. أدرك الرجل باكراً، أن السفينة المبحرة بكل بيارقها على وشك الغرق. التفاؤل الذي أبداه مع هبوب الانتفاضات العربية بوصفها ثورات كبرى أنهاه بخشيته من خيبة كبرى، كأن تنزلق هذه الانتفاضات إلى إيديولوجيا دينية. وهو ما ستكشفه الوقائع اللاحقة «فالربيع العربي لم يفتح من أبواب أخرى غير أبواب الجحيم والردّة إلى ما قبل الحداثة  المأمولة والغرق من جديد في مستنقع  القرون الوسطى الصليبية/ الهلالية»، كما سيشير في مقالٍ أخير له إلى أن ما يحدث في بلاده هو حرب أهليّة محمولة على غزو «هولاكي» جديد، لكن صبيان الميديا ودهماء الثقافة سيرجمونه بحجارتهم، مما اضطره إلى الصمت. مفكر نقدي بمقام جورج طرابيشي لا مكان له وسط لحظة لا عقلانية، كأنه لم يقرع جرس الإنذار مراراً بضرورة استعادة العقل في مواجهة «فقه القتل». هكذا اتكأ على إحدى مقولات شكسبير باعتبارها جداراً استنادياً لأطروحاته العقلانية «ليس الهرطوقي من يحترق بالنار، بل الهرطوقي من يشعل المحرقة».
اعتبر ما يحدث في سوريا حرباً أهليّة محمولة على غزو «هولاكي» جديد

مساجلاته مع أطروحة محمد عابد الجابري حول «نقد العقل العربي» مثال ساطع على رؤيته العميقة للتراث الإسلامي وتقليب التربة بمعولٍ حاد لنبشه وتصحيحه، طوال ربع قرن من النقاش والمراجعة، والإعجاب والتصويب، بإزاحة ما هو مزيّف. امتياز صاحب «اشكاليات العقل العربي» أنه لم يتوقّف في محطة فكرية أو ايديولوجية واحدة ويستأنس بها، فقد شهدت حياته انقلابات متعاقبة، من التعصّب الديني في صباه إلى نبذ المسيحية، ثمّ الالتحاق بالايديولوجيا القومية، مروراً بالوجودية، والماركسية، والتحليل النفسي، وانتهاءً بالليبرالية، ليصل ـــ في نهاية المطاف ــ إلى خيمياء معرفية، ورؤية موسوعيّة مركّبة، هي مزيج من هيغل وفرويد وسارتر وماركس، سوف يستثمرها مجتمعةً في سجالاته وأبحاثه التي ستنقله من نقد الرواية إلى نقد التراث العربي الإسلامي، وفي مقدمته الظاهرة الأصولية، بما يمكن أن نسميه الاجتهاد في مجابهة الجهاد. في «هرطقاته»، غاص عميقاً في ضرورة تجذير العلمانية والحداثة والديمقراطية في مختبر عربي صرف، معتبراً عدم وجود وصفة جاهزة لتحقيق الحداثة العربية، ومنبّهاً إلى خطورة الانزلاق إلى الطائفية والمذهبية والإسلاموية التي تعمل على «تهييج العاطفة بدلاً من استفزاز العقل». فقد كان على الدوام «داعية للفكر النهضوي» وذلك بمدّ الخيوط المقطوعة مع النهضويين العرب الأوائل، بقصد مواجهة «فقهاء الظلام»، واستئناف المشروع التنويري عن طريق العلمانية وحدها كعلاج لاختراق الطوائف والانعتاق من ميراثها الثقيل، كما أن شقّ الطريق نحو الديمقراطية يمرّ بـ «صندوق الرأس» لا صندوق الاقتراع. عنوان مثل «من النهضة إلى الردة» يختزل أحوال العقل العربي اليوم، أو ما أطلق عليه هذا المفكّر السوري مصطلح «العقل المستقيل» استجابة للتحديات الكبرى التي يواجهها التفكير في صراعه مع التكفير.
سنأسف كثيراً بإهمال مكتبة جورج طرابيشي الموسوعية بإشراقاتها المتفرّدة التي تربو على نحو 200 كتاب، في حقولٍ مختلفة، كان آخرها «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث»، لتتفوّق عليها فتاوى الكتب الصفراء، وغبار دعاة الفتنة، وانقلاب بعض العلمانيين القدامى على تاريخهم القديم، لمصلحة دفء حضن الطائفة، وفوائد الزبائنية السياسية في احتلال الواجهة.
رحل المهرطق الأخير حزيناً، وهو يشهد المذبحة العمومية لجغرافيا ممزّقة وتاريخ منهوب، وعقل نائم، وقد تيقّن بأن إخفاق الحداثة التي نافح عنها طويلاً هو محصلة واقعية لغياب الفلاسفة. فاختتم حياته بقوله «إن شللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت، ولكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذي هو موت الوطن».