ليس في مقدورنا، بطبيعة الحال، أن نشمل مفكّراً وناقداً ومترجماً عربياً بحجم جورج طرابيشي (مواليد حلب 1939-2016) في عجالة، يُلزمنا إياها حدثُ موته. من نافل القول إنّ هذا المفكّر هو، بوجه من الوجوه، من المؤسّسين في تكريس وعيّ نقديّ، فارق على الصعيد المنهجيّ، فيما يتصل بالرؤية إلى التراث أو البنى التفكيرية العربية.
تلك الرؤية التي تشعبت مسالكها في عقود ما بعد حقبة «النهضة» ربطاً ــ في الغالب ــ بإشكالية الحاجة إلى الحفر في مسألة الهوية العربية الاسلامية، واتصالاً بتيارات فكريّة أكاديمية غربية داهمة لم يعد بالامكان إغفال أدواتها وتصوراتها المنهجية في التعامل مع مدونات حضارية مؤسّسة، فكيف بحضارة تأسست على النصّ، نعني «حضارة النصّ».
يتحدث طرابيشي في دوافعه الأساسية للنقد، ابتداءً من محمد عابد الجابري (1936-2010) في مشروعه نقد العقل العربي، عما يشبه ملاحظات أولية على أساليب الجابري في ليّ عنق المتون التراثية، بتراً أو إغفالاً، في سبيل تقرير استنتاج ذهنيّ مسبق فيما يشكل، في العمق، ومن وجهة نظر منهجية، افتئاتاً على المتن. هذا الدافع صار في المقبل من السنين معارضة بحثية عميقة للمباني التي تأسست عليها أفكار الجابري في مشروع «نقد نقد العقل العربي» (صدر في أربعة مجلدات منذ 1980).
يتمحور نقد طربيشي للجابري في قسم وازن منه أو نقول النقد على الثيمة الجوهرية في تصوّر الجابريّ، على تلك الاستخدامات النصيّة التي تسمح للجابري في إقامة ذلك التمفصل الفلسفيّ/ التفكيريّ الحاد ربطاً ببنية العقل العربي بين مشرق ومغرب أو لاعقلانية مشرقية/ عقلانية مغربية. هذا التمفصل هو، في الجوهر، نقد اللاعقلانية المشرقية التي ــ بحسب الجابري ــ ليست من التكوينات البنيوية في العقل العربي بل هي، بوجه من الوجوه، عمليات دخيلة بتأثيرات من دوائر فكرية (غنوصية/ إشراقية). دوائر تبلورت وشكلت تماسات مع بنية هذا العقل في حقبات معروفة وتحديداً في القرنين الرابع والخامس الهجريين. نزع العقلانية عن المشرق لصالح المغرب العربي (ابن باجة/ ابن الطفيل/ ابن رشد) سوف يكون متكئاً، بحسب طرابيشي، على ابتسارات جابرية تصيب متوناً نصيّة تراثية، لا حصر لها، في سبيل القيام بانتزاع فلاسفة العقل التراثيين المشرقيين من تأسيساتهم الثقافية والفكرية المشرقية لصالح دمجهم في ما يلائم تصوراته للبنية العقلية العربية.
ينجز منهجيته المعارضة على فكرة تأصيل سمات بنيوية عقلانية عند فلاسفة مشرقيين

ينجز صاحب «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» (2010)، منهجيته النقدية المعارضة على فكرة تأصيل سمات بنيوية عقلانية عند فلاسفة مشرقيين مركزيين (ابن سينا) لا يمكن حجبها، وعلى تظهير تهافت استخدام الجابري لمسانيدَ وحجج نصيّة أو منطقية. نتكلم عن براعة نادرة في استحضار كم هائل من النصوص وفي مقابلتها، ومن ثم إنجاز عمليات تدقيقية تسلط الضوء على مفاصلها فيما يشبه تفكيكاً للتأصيلات الجابرية ونقداً لتقسيماته المركزية. تقسيمات، تصير في الغالب مكشوفة لناحية تلك الآليات المتهافتة التي يجيّر بها الجابري التراث من دون الانتباه إلى أن التراث النصيّ نفسه بطبقاته المتعددة ومساحاته المتداخلة، زمانياً ومكانياً، وتماساته وشروحاته على النص الاصليّ المؤسس، لا يمكن أن يكون محصوراً في تكويناتٍ بنيوية تغفل تلك التلاقحات والتمازجات المفهومية الحديثة بين ما هو "عقلاني" وما هو "لاعقلانيّ" في الزمان والمكان ضمن حضارة تحيل، مراراً وتكراراً، الى حقيقة نصّية سوف تظل قابلة للتجلي في التاريخ بوجوه متعدّدة. (نشير مثالاً لا حصراً إلى اللقاء الشهير بين ابن رشد وابن عربي والسؤال الوصول إلى الحقيقة).
يقترف الجابري، كما يفند طرابيشي إزاحات ساطعة بحق التاريخ خدمة للقسمة المركزية، إذ يسعى إلى إقامتها نفياً لوحدة العقل العربي الاسلامي. ولعل المثال الفارق في هذا الحيز وربطاً بتظهير بنية الادلجة المذهبيّة في المشروع هو الشق المتعلق بدلالة أو بـ «تعبيرية» المنافسة العلمية المغربية – المشرقية. تعبيرية عن الصراع التاريخي للدولة العباسية السنية مع خصومها الباطنيين اللاعقلانيين تحديداً في الحقبة البويهية. نتكلم عن أخطاء منهجية يخيل أنها مقصودة، في الغالب، تتصل بالازاحة التاريخية للعصر البويهيّ في النصف الثاني من القرن الرابع إلى العصر السلجوقي في النصف الثاني من القرن الخامس أي بمسافة لا تقل عن قرن، فضلاً عن إزاحة «الشيخ الرئيس» المتوفّى سنة 428 للهجرة من موقعه الفعلي في الثلث الاول من القرن الخامس إلى موقع متوهّم هو الثلث الثالث من القرن نفسه. كل ذلك بحسب طرابيشي، ليصير ابن سينا ناطقاً ايديولوجياً بلسان الباطنية الذين كانت الدولة العباسية بعد انتقالها من الهيمنة البويهية الشيعية إلى الهيمنة السلجوقية السنية قد دخلت فعلاً في صراع حياة أو موت معهم.
بطبيعة الحال، تقف مجمل النتاجات، على تفاوتاتها المنهجية ومنابتها المصدرية المتنوعة، في النقد ونقد النقد على أرضية كونها تجابه تيارات القراءات السلفية للتراث لصالح قراءت تاريخانية/علميّة تحيل في الراهن إلى القدرة على الانخراط والاجابة عن أسئلة الهوية والدولة العلمانية والمدنية (أركون، نصر ابو زيد، علي حرب...) بهذا المعنى، لا يمكن، بحال من الأحوال، تجاوز منهجية طرابيشيّ العامة، لناحية قدرته، خلال الحفر التقادمي في المتون، على تظهير الممارسات والاكراهات التاريخية/ السياسية (وتأثيراتها الثقافية)، بشكل مفصل، على هذه المتون. إكراهات تسمح ــ إذ تكون مظهّرة على هذا النحو ــ في استيعاب راهنية الطرائق في إنتاج دلالات اعتباطية للنصوص في سبيل إحالتها على مجمل الصراعات الراهنة وتحديداً الصراعات التي تتصل بمسألة الهوية. طرائق يدفع البحث الاكاديمي الرصين الذي يفترض أن يستجيب للشرائط والمناهج والموضوعية ثمنها الاول. في هذا الحيز، نفهم، في العمق، بعد استيعاب نقد النقد لطربيشي، سياقات الادلجة السياسية المذهبية والثقافية الصراعية قديماً في الحقبة البويهية في الخلافة العباسية، وراهناً في حقبة الثمانينيات لكون بنية العقل العربيّ الجابرية كمشروع تأسيسيّ تأصيليّ سوف يحيل بالضرورة على تفريعات والتواءات عملية الادلجة.